البحث العلمي وإشكالية النزاهة والأمانة العلمية لدى الباحث
هوا الأردن - كتب أ.د. عدنان الجادري
يعد التفكير بانواعه كافة من الخصائص التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى، وإنه يمثل أعلى مستويات النشاط العقلي وأعقد أشكال السلوك الإنساني، وينال موضوعه اهتمام المختصين في العلوم الإجتماعية والطبيعية كافة. وبألرغم التعدديه والتنوع في مفهومه الا إن معظم الآراء تعبر عن مضمونه بانه كنشاط ذهني يتضمن مجموعه من العمليات العقليه تتناول أحداثاً تختلف في مستويات تعقيدها بين البساطه والصعوبه لغرض تفسيرها ومعالجتها ويساعدعلى إكساب الفرد خبرات ومعارف لتوظيفها بشكل مستمر في معالجة مشكلات حياتيه مماثلة. أما التفكير العلمي الذي يقع في اعلى مستويات التفكيرالأنساني فلا يبتعد مفهومه كثيراً عن هذه الرؤية للتفكير من كونه جهداً علمياً منظماً يستخدم فيه المختص قدراته العقليه بشكل منهجي ومنظم على وفق خطوات ومراحل متسلسله ومترابطه تبدء بالإحساس بموقف غامض أومشكله وتحديدها بدقه ووضع الحلول الأوليه المفسره لها وجمع البيانات والحقائق عنها وتحليلها بهدف الوصول إلى التفسير لمعالجتها. ومن المبادئ التي يستند إليها التفكير العلمي :-
1. لايمكن إثبات الشئ ونقيضه في الوقت نفسه. فالشئ إما أن يكون موجوداً أو غير موجود، ولذا لا يمكن جمع النقيضين في سمة واحده.
2. يستند التفكير العلمي الى حقيقة ثابته وهي أن لحدوث اي ظاهرة او حدث سبب ، ولا شئ يحدث نتيجة للصدفه وبدون موقف مسبق .
والتفكير العلمي كعملية تمثل احد مكونات النظام البحثي الذي تتفاعل فيها جملة من المدخلات للتوصل الى مخرجات تمثل نتاجات المعالجلات للمشكلات البحثية . وإنه يمثل نظامًا متكاملاً في إطار فهم التَّكوينات النِّظميَّة التي تتكون عناصرها من المُدخلات والعمليَّات والمخرجات, وباتِّساق مماثل مع عناصر البحث العلميِّ . إنَّ النِّظامَ بمفهومه العام هو مجموعة من العناصر يتمُّ تنظيمها بطريقة تتحقق بها الأهداف التي وُضعَ من أجلها النِّظام. وتقوم بينها علاقات تبادلية شبكية تتم ضمن قواعد محددة. إن هذا المفهوم للنِّظام البحثيِّ ينسجمُ مع الحديث الشَّريف للرسول محمد(ص) " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "(صدق رسول الله ).
إن هذا الحديث يشبه المؤمنين بالجسد الواحد. إذ ينظر إلى الجسد كنظامٍ يتكون من مجموعةِ أجهزةِ (عناصر) ولكلِّ جهازٍ وظيفة وعلاقات مع بقيَّة الأجهزة ويسعى الجسم بمجمله إلى تحقيق هدفٍ اشمل هو البقاء على الحياة. وتفسير ذلك إن للجسم مُدخلات تتمثل بالماء والطَّعام والهواء وتتحول هذه المُّدخلات إلى عمليَّات متعددة، مثل: التَّنفس والهضم والتَّفكير...الخ وتحول المدخلات إلى مخرجات تمثل بقاء الإنسان على الحياة.
إن اوجه التشابه الرَّئيسة بين نظام البحث والجسد هي العلاقة الشَّبكية بين العناصر التي تختلف عن العلاقات الخطية. إذ إنَّ العلاقة الشبكية تعني أن كلَّ عنصرٍ من عناصر البحث يرتبطُ بعلاقةٍ بالعناصر الأخرى، أما العلاقة الخطية فتعني أنَّ للعنصر علاقة بعنصر واحد أو بعددٍ محدودٍ من العناصرِ وليس جميعها.
واقترن البحث العلمي منذ القدم بالمحاولات التي بذلها الأنسان لاجل الوصول الى المعرفه وفهم الظواهر الطبيعية و الظواهر الأنسانية التي تحيط به وقد ظلت هذه الرغبة قائمة ومستمره له منذ المراحل الأولى لتطور الفكر الأنساني . ويعد البحث العلمي الوسيلة للوصول إلى تطوير المعرفة بطريقة منتظمة وايجاد حلول للمشكلات . وبعبارة أخرى فان البحث العلميِّ يمثلُ الجهد العقليَّ الذي يبذله الباحث من أجل بناء رؤية وتصور واضح لكافةِ الأنشطةِ والإجراءات المطلوبة لإنجاز البحث، ولهذا فإنَّ هذه العمليَّة تتطلب اتخاذ قرارات متكاملة بصدد العناصر كافة التي تتضمنها، وما هو مطلوب من مستلزمات لأنجاحها على المستوى التنفيذي وتحقيق الأهداف المرجوة. و يمكن النظر اليه بأنه تصميمٌ يتناولُ مشكلةً محددةً وتبريراً منطقيَّاً وعقلانيَّاً لها وفرضيَّة أو مجموعة فرضيَّات يتمُّ اختبارها بجمع البيانات والمعلومات المرتبطة بها، وبالنتيجة تسمح للتفكير مليَّاً في الدِّراسة وتسهل من إجراء تحديد الأدوات القياسيَّة في البحث.
ومن هنا يجدر الأشارة بأن العمل البحثي أمانة تطوق عنق الباحث العلمي في كافة التخصصات العلمية والأجتماعية والأنسانية . لذا من الضروري ان يتحلى بالنزاهة والمصداقية والأمانة العلمية والموضوعية في كافة اجراءاته البحثية لغرض تحقيق نتائج موثوقة ذات اهمية علمية ومجتمعية . إن النزاهة العلمية تعد سلوكاً وليس مبدئاً اخلاقياً يراد انتهاجه وعندما تنتهك تغدو وجهاً من اوجه الفساد العلمي والتربوي الذي لا يختلف كثيراً عن اوجه الفساد الأخرى كالفساد المالي والأداري والأقتصادي والسياسي وغيرها من السلوكيات الخاطئة . وعندما نتناول تاريخ البشرية في حقباته المنصرمة نجد ان الفساد كمصطلح ومفهوم موجود قدم الأنسان على هذه الخليقة , وإن ما يدعم ذلك ما ورد في الآية الكريمة من سورة البقرة , عندما أراد الله سبحانه وتعالى ان يجعل خليفته في الأرض بقوله تعالى " إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء " لهذا فأن السلوك اللا أخلاقي موجود في النفس البشرية وفي طبيعة الإنسان ويعكس صورة سلبيية للقيم الإنسانية النبيلة التي تحكم تطور الأمم وبناء المجتمعات وفق اسس حضارية متقدمة .
ويمثل الباحث العلمي العنصرالاساسي والأخلاقي والأدبي في البحث العلمي، إذ إن خطر ابتعاده عن النزاهةوالامانة في البحث العلمي يؤدي يالمجتمع إلى الضياع وانتهاج طريق التخلف، وذلك لإن التقدم العلمي في شتى مناحي الحياة يحتاج إلى قيم وأخلاقيات بما في ذلك البحث العلمي الذي له ضوابطه وأخلاقه المستمدة من ادبيات علم طرائق البحث العلمي ومبادئه، والتي يجدر التقيد بها ، وان ابتعاد الباحث العلمي وعدم اكتراثه باهمتها وضروراتها يضعف القيمة العلمية لأدائه البحثي وما يتوصل اليه من نتاجات علمية , لأن النزاهة والأمانة العلمية في اطار المنظومة الأخلاقية للعلم والبحث العلمي تتطلب احترام وتقدير الحقوق الفكرية والعلمية والأدبية لأهل العلم والباحثين الآخرين وعدم تحريف وتزييف آرائهم وانتهاك حقوقهم وكرامتهم .إذ إن اساسيات النزاهة والأمانة العلمية للباحث العلمي تستند الى دعامتين اساسيتين هما العمل المبدع والمنتج وتجنب الاضرار بحقوق الآخرين . وان من الأمور التي يجب ان يتحلى بها الباحث العلمي لبلوغ النزاهة والأمانة العلمية تتمثل بالمصداقية في الأداء البحثي باجراءاته كافة وعدم انتهاك حقوق الآخرين وضرورة مراعاة افكارهم ومشاعرهم والألتزام باعلى درجات المسؤولية في اجراءات النقل والأقتباسات والأستلالات العلمية وبدقة عالية حتى لا يتعرض شخصياً للنقد والطعن في انجازه البحثي . اضافة الى تجنب السرقة العلمية لجهود الآخرين التي تحدث عندما يقوم الباحث باقتباس اجزاء وفقرات او استلال أفكار باحث اوكاتب آخر دون ذكره او التعريف به في متن وقائمة مراجع البحث ويرجعها الى نفسه . والسرقة العلمية بمعناها المبسط تعني استخدام غير معترف به لأعمال وافكارباحثين آخرين بقصد أو من غيرقصد وتنسيبها لنفسه . وليس هناك من شك ان اشكالية السرقات العلمية والتحايلات لن تتوقف بل ستتفاقم اكثر واكثر بالاخص في الاوساط الجامعية ما لم يجر البحث عن الآليات والسبل التي من شأنها ان تحد من هذه الظاهرة بل تقضي عليها وبالأخص ما يتعلق بتشريع الانظمة والقوانين واتخاذ اجراءات صارمة لمواجهتها والبحث عن التقنيات التي تساعد في الكشف عنها وتعريض من يمارسها الى اقسى العقوبات في اطار القوانين المشرعة لهذا الغرض .
بناءً على ذلك فأن النزاهة والأمانة العلمية في البحث العلمي اخذا يشكلان دعامتين اساسيتين لإرساء قاعدة علمية حقيقية في اي بلد يهدف الى التطور ويكون له شأن في السباق الحضاري العالمي . لذلك فإن تعزيزهما مفهوما وممارسة يتطلبان عدد من الأجراءات من قبل اصحاب القرار في وزارات التعليم العالي والمؤسسات الجامعية ومنها :
1 – استحداث مكتب للنزاهة والأمانة العلميةيرتبط بالهيئةالوطنية للنزاهة ومكافحة الفساد على المستوى الوطني يختص بشؤون البحث العلمي والتاليف والنشر وصيانة حقوق الملكية الفكرية ويعمل في اطار ضوابط قانونية وتشريعات لأداء مهامه الوظيفية والمؤسسية .
2- اعداد ميثاق عمل وطني لصيانة وتعزيز النزاهة والامانة العلمية وحمايةحقوق الملكية الفكرية وألزام المؤسسات العلمية والجامعية والبحثية والباحثين فيها للعمل بموجب الضوابط التي يتضمنها .
3- الزام الجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية بتشكيل لجان متخصصة تتألف من اعضاء هية تدريس ذوي خبرة عالية تسن لها التعليمات الخاصة بآليات العمل في اطار الأهداف المحددة لها والمهام والواجبات المناطة بها لتعزيز النزاهة والأمانة في اجراءات ا لبحث العلمي وصيانة حقوق الملكية الفكرية .
4 - توجيه اعضاء هيئة التدريس وبالأخص المشرفين على طلبة الماجستير والدكتوراه بضرورة متابعة الطلبة بشكل جدي ومسؤول لاعمالهم البحثية للحد من ادوار مراكز الأستشارات والخدمات الطلابية في المساعدات التي تقدمها للطلبة الباحثين وما تسببه هذه من اخلال في النزاهة اوالأمانة العلمية .
5 – ان تعمل الجامعات والمؤسسات العلمية على اعداد ادلة خاصة باخلاقيات البحث العلمي وأن تستمد مضامينها من بنود ميثاق العمل الوطني لتعزيز النزاهة والأمانة العلمية وصيانة الملكية الفكرية . وأن تؤخذ الجهات المعنية في الجامعات مسؤولية التعريف بهذه الأدلة والتوعية بمضامينها للمعنيين من اعضاء هيئة التدريس والباحثين .
6 – ان تتبنى الجامعات والمؤسسات العلمية الأخرى عقد برامج وورش تدريبية وندوات علمية متخصصة تهدف الى توعية اعضاء هيئة التدريس والباحثين من الطلبة بماهية النزاهة والأمانة العلمية وما يترتب على انتهاكها من اضرار وتاثيرات سلبية عليهم وعلى سمعة الجامعات والمجتمع عموماً .
عضو هيئة التدريس / كلية العلوم التربوية والنفسية
جامعة عمان العربية