سمير الرفاعي يكتب : الأردن بين تحدّيات وفرص العام الجديد
في اللقاء الذي جمع جلالة الملك عبدالله الثاني المعظم مع رؤساء الوزارات السابقين، مؤخراً، في الديوان الملكي العامر، وفي لقاء جلالته الأخير مع أعضاء المكتب الدائم ورؤساء اللجان في مجلس الأعيان؛ ساد اليقين لدى الحاضرين، بأن إحاطة جلالته بالتفاصيل والترتيبات المتداخلة، على المستوى الإقليمي، وارتباطاتها بالبُعد الدولي، لا يوازيها من حيث الدقّة والأهمّيّة إلا تمسّك جلالة الملك بالثوابت والمحدّدات التي قرّرها للسياسة الخارجيّة الأردنية، منذ بواكير التحوّلات الحادّة التي شهدتها المنطقة، والانفجار الضخم، الذي عاشته، وأُطلق عليه في حينه، اسم "الربيع العربيّ"، إلى المآلات الماثلة، ونتائج التفاعلات والاستدارات التي عادت لتعبّر عن نفسها وعلى أكثر من مستوى في المنطقة.
إن المتابع لأداء جلالة الملك ونشاطاته وخطاباته واتصالاته، يلحظ بوضوح أن الدبلوماسيّة الأردنيّة، استطاعت أن تحقّق في أكثر المراحل عُسراً وتعقيداً، إنجازات مهمّة ونوعيّة، على أكثر من صعيد، وبشكل خاص فيما يرتبط بالقضيّة الفلسطينيّة، وبوصفها تمثل مصلحة وطنيّة عليا، كما وصفها جلالة الملك في خطبة العرش السامية الأخيرة. وأيضاً، ومن بين الإنجازات المهمّة، تثبيت حقيقة أن الرؤية الأردنيّة، المنبثقة من التمسّك الدائم بالاعتدال كخيار وحيد لمجابهة التحدّيات، مع الدور "الرسالي" الذي ينطلق منه الأردن، في سياساته ومبادراته، رغم كل الضغوطات الداخلية والخارجيّة، قد برهنت حصافة الفهم الأردني لواقع الصراعات وارتباطاتها؛ ما يؤكد أن مكانة الأردن الدوليّة ومصداقيّة جلالة الملك؛ هي نتاج قراءات دقيقة ومواقف ثابتة ورؤى استشرافية، مصحوبة كلها بالحدّ الأعلى من الشجاعة الأدبيّة والسياسيّة، وتقديم النموذج، المتميّز، في العلاقات الدوليّة، وفي التمسّك بالثوابت والمصالح العليا، وفي الإصرار على خيار الإصلاح الشامل، المنسجم مع هذه الرؤية، ومع الرغبة الشعبيّة، والتفاف الأردنيين، كافة، حول قيادتهم ومؤسّساتهم ودولتهم الوطنيّة.
وتبدو السفينة الأردنيّة، اليوم، الأقوى والأمتن، والأقدر، بالضرورة، على تجاوز الأنواء والمفاجآت، وهي سفينة الأمان والنجاة، يعرفها الأردنيّون والعرب ويعرفها العالم، وستبقى شامخة ورايتها خفافة. وسيبقى الأردنيون، بفضل الله، عزوة آل البيت الأطهار، ونموذجاً في الاستجابة للتحدّي وللإيجابيّة والفاعليّة.
ومع دخول العام الجديد، تتضح ملامح الأداء الأردنيّ، إزاء تحدّياته وتحوّلاته، وعلاقات الأطراف، وانعكاساتها على الثوابت والمصالح الأردنيّة. وخليق بأي تحليل رصين أن ينطلق من الثقة بالذات، وقراءة تجربة الأعوام الصّعبة السالفة، وتقييم عادل لأداء الدولة الأردنيّة، أثناء كل تفاعلاتها؛ وبما يمكن أن يسهم بالمزيد من الفهم، والقدرة على التقدير السليم غير المنفعل أو محدود الرؤية، باتجاه بناء مقاربات داخلية، مستندة إلى الإيمان بقوّة الدولة الأردنيّة وسلامة خياراتها.
لقد تحدّدت الرؤية الأردنية للصراع في المنطقة، وتداخلات الدوليّ بالإقليميّ، على نحو جليّ، في مجمل الملفات. وتجلت قدرة الأردن، أكثر فأكثر، في الدّفاع عن مكتسباته وحماية مسيرته، بل وتعزيزها بالفرص المهمّة. وبالنظر إلى ما تحقّق خلال السنوات الأخيرة، من مكانة لائقة بهذا البلد، الصغير بموارده ومساحته، الكبير الكبير بقيادته وإرادته.
ويمكن تلخيص أبرز الملفّات، المؤثرة، على الأردن، خارجيّاً وداخليّاً، على النحو الآتي؛
أوّلاً، القضيّة الفلسطينية، حيث واجهت هذه القضيّة المركزيّة، خلال سنوات "الربيع العربي"، خطر التهميش وتراجع الأولويّة، ليس فقط على سلم اهتمامات المجتمع الدولي، ولكن، أيضاً، على أولويّات الأمن القومي العربي؛ بحيث تصدّرت ملفات مكافحة الإرهاب وأمن الخليج والأزمة السوريّة والأوضاع الداخليّة في أكثر من بلد عربي إضافة إلى تطوّرات الملف النووي الإيراني، في ظل تسريبات حول صفقات كبرى إقليميّة- دوليّة، وعلى حساب الدور العربيّ؛ تصدّرت اهتمامات العالم والإقليم. واستثمرت إسرائيل الفرصة، في محاولة فرض وقائع جديدة على الأرض، من خلال جملة من الإجراءات الأحاديّة، استندت أوّلاً، إلى تعثّر مسارات التسوية وضعف الواقع العربي، وبالاستفادة من الانقسام الفلسطيني. وأوشكت الإجراءات الإسرائيليّة، العدوانيّة، في القدس الشريف أن تقود إلى انفجار كبير، وإعادة خلط للأوراق. ومن هنا، كان التحرّك الملكي المكثّف، وجاءت الإجراءات الدبلوماسيّة والقانونيّة والسياسيّة الأردنيّة، لتكبح جماح الاندفاع الإسرائيلي نحو التأزيم. وشهدت عمّان لقاءات متتالية واتصالات ورسائل واضحة، أعادت الاعتبار للقضيّة الفلسطينيّة ومركزيّتها، ووضعتها، من جديد على سلم أولويّات العالم. وكان لجهد جلالة الملك المباشر الأثر الكبير في إضاعة الفرصة على الإسرائيليين، باستثمار اللحظة الإقليميّة المعقّدة. ووجد اليمين الإسرائيلي نفسه مرّة أخرى أمام حائط صلب، دفعه لإعادة النظر بحساباته ومخططاته.
إن هذا الموقف الأردني الحاسم، والفاعل أيضاً، إزاء القضيّة الفلسطينيّة، والتمسّك بالشرعيّة الدوليّة وبمرجعيّات العمليّة السياسيّة، والربط الدائم بين غياب الحل العادل وتنامي الشعور بالظلم وعجز المجتمع الدولي، لم يمثّل فقط دفاعاً عن الحق الفلسطينيّ. ولكن، أيضاً، وبالتوازي، وبنفس المقدار، أكد قدرة القيادة الأردنيّة على الدفاع عن مصالح الأردن العليا. والمصلحة الأردنيّة كما عبّر عنها جلالة الملك في أكثر من معرض هي بقيام الدولة الفلسطينيّة المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية. أمّا محاولات الدفع باتجاه التأزيم، وإثارة المزيد من النزاعات الداخليّة الفلسطينيّة ومساعي هدم السلطة من الداخل؛ فتشكّل نهاية مؤسفة للمشروع الوطني الفلسطيني مثلما تشكّل تهديداً على المصالح الأردنيّة المرتبطة بالحلّ النهائي، وتحديداً فيما يخصّ ملفات اللاجئين والحدود والقدس والأمن والمياه. مثلما أنها قد تدفع باتجاه إعادة سيناريوهات مرفوضة أردنيّاً إلى الواجهة من جديد، لتدعم الضغوط باتجاهها.
إن القضية الفلسطينية من المفروض أن تكون قضية العرب المركزية، بحكم ارتباط تنامي الكثير من حركات التطرّف والإرهاب ومشاعر الإحباط، عضويّاً، بغياب الحلّ العادل واستمرار التهديدات الإسرائيليّة، ومن ضمنها محاولات التهويد؛ ويتصدّر جلالة الملك عبدالله الثاني، منفرداً، في كلّ مرّة، للدفاع عن الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية. وقد دفعت جهود جلالة سيدنا ومكانته العالمية وممارسته الضغط على إسرائيل وأميركا والدول الأوروبية إلى منع إسرائيل حتى الآن من تهويد القدس والأقصى والمقدسات.. والمطلوب اليوم موقف عربي ودولي أكثر حسماً وجدّيّة في منع السياسات التأزيميّة الإسرائيليّة من مواصلة محاولاتها، والتي لن تقف عند حدود.
هذه الحقائق يجب أن تعيها، أيضاً، القيادة الفلسطينيّة. وأن تدرك أن الواقع العربي والإقليمي، وأن الواقع الفلسطيني نفسه، لا يتيح العودة إلى سياسية الخندقة وعدم المرونة في المقاربة. وكانت القيادة الفلسطينيّة الحاليّة، قد تفاعلت مع المفاوضات، على أساس من إدراك عدم جدوى هذا الأسلوب وغيّرت في استراتيجيتها.. ونأمل أن لا تؤثّر الأزمات الداخليّة إلى تغيير غير محسوب ومضرّ في الأداء السياسي الفلسطينيّ.
وبذلك، فإن أيّ خطوة تتخذها القيادة الفلسطينيّة، حتى لو كانت لاعتبارات تصعيديّة، يجب أن تراعي المصلحة الوطنيّة الفلسطينيّة. وأن تنطلق من الفهم الحقيقي لأجندة اليمين الإسرائيلي، والتي تسعى لنسف المنجز الفلسطيني السياسي من أساسه.
إن إصرار الجانب الفلسطيني على الذهاب إلى مجلس الأمن في هذا التوقيب بالذات، يُثير جملة من التساؤلات؛ فالعضوية في مجلس الأمن كانت ستتغير خلال أيام، والأعضاء الجُدد معظمهم يؤيد الطلب الفلسطيني. والانتخابات الاسرائيلية على الأبواب. والفشل في مجلس الأمن سيُقوّي اليمين الإسرائيلي وربما يضمن نجاحه. وهو ما دفع جميع الأطراف المؤيدة لفلسطين لطلب التأنّي والتريّث من القيادة الفلسطينية، ولخدمة القضيّة الفلسطينيّة ومسارها السياسي، طالما أن البديل لن يكون أفضل. وربّما يكون كارثيّاً على الحقوق الفلسطينيّة، لا قدّر الله.
وبصراحة أكثر، فإن وضع القضيّة الفلسطينيّة، اليوم، في ظلّ الأوضاع الإقليميّة لا يحتمل المجازفة غير المحسوبة. وأيّة خطوة تقدم عليها القيادة الفلسطينيّة يجب أن تخضع لمعايير المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني الصابر والصامد، بمعناها الاستراتيجي وحساب الكلف المترتبة عليها. وليس الآن هو وقت الحرد.. واندلاع انتفاضة فلسطينيّة، جديدة، تراق فيها دماء الفلسطينيين، وتنتهك مكتسباتهم، ليس ورقة ضغط مناسبة، في منطقة أصبح منظر الدّماء فيها مشهدا يوميا لا يثير أية ردود فعل بكل أسف.
ثانياً، ملف مكافحة الإرهاب؛ وبكل وضوح، ينبغي التذكير هنا، بأن ما حمى الأردن من تمدّد التنظيمات الإرهابيّة إلى أراضيه واستهداف أمنه واستقراره، ليس عدم وجود رغبة لدى التنظيمات الإرهابية بفتح جبهة مع الأردن. ولا هو بعدم وجود قرار لدى قيادات الحركات الإرهابيّة بهذا الخصوص، وإنما السبب الوحيد وبجلاء، هو: قوّة الدولة الأردنيّة ومؤسّساتها، وامتلاكنا الدائم لزمام المبادرات ميدانيّاً واستخباراتيّاً وعمليّاتيّاً.. وواهمٌ من يظن غير ذلك. وقد برهنت سنوات سابقة أن الأردن مستهدف بأمنه واستقراره وحدوده. وبالتالي، فإن قرار الحرب على الإرهاب، وبالإضافة إلى كونه قراراً سياسيّاً، فهو أيضاً قرار عمليّاتي، تقرّره غرف العمليّات في الجيش العربي والأجهزة الأمنيّة.. وتدرس، بدقّة، وموضوعيّة، كُلفه الميدانيّة وكُلف الاستنكاف عن القيام به. والأردن، وإن كان، بشهادة العالم واحة أمن واستقرار، فهو ليس جزيرة معزولة. بل هو في قلب الأحداث. وهذه الحرب فُرضت علينا. ولا يحمينا من تبعاتها الهروبُ من خوضها ببسالة وإقدام. بل على العكس من ذلك، فإن التردّد في اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، هو ما يعرّض الوطن واستقراره للكلف الباهظة. ويحمّله، تالياً، تبعات التأخر وفقدان المبادرة. رحم الله كل أردني استشهد على يد الإرهابين الجبناء وحفظ الله الأردن من كل سوء ومن المتربصين.
ثالثاً، الأزمة السوريّة وتداعياتها؛ وليس من قبيل التكرار التذكير بالموقف الأردني المتوازن والحصيف منذ بداية الأزمة السوريّة. وقد استطاع جلالة الملك، بعزيمته وإرادته، أن يجنّب الأردن، أوّلاً، ويلات التورّط في صراع شائك وملتهب، وان يحمي واحداً من أهم مبادئ السياسة الخارجيّة الأردنيّة، وهو عدم التدخّل بالشؤون الداخليّة للأشقاء، كما برهن، ثانياً، صحّة تشخيصه منذ البداية، بحصريّة الحل السياسي السلمي للأزمة السوريّة، واستحالة الحسم العسكري الميداني. وحتى مع تشكل قناعة دوليّة مؤخراً، بأولويّة مكافحة الإرهاب ووجوده على السّاحة السوريّة؛ فإن الحلّ السياسي يبرز كشرط رئيس لعزل الإرهاب ومجابهته، من خلال الحوار بين المكوّنات السياسيّة السوريّة، والأطراف الحاضرة على الأرض، بما في ذلك المعارضة السياسيّة السوريّة التي لم تتورّط بالقتل والتدمير والإرهاب.
إن كلفة القضية السوريّة على الأردن تتعدى ملف اللاجئين مع كل ما يمثله من تحديات وضغط اقتصادي اجتماعي وعلى البنى التحتيّة، فهناك أيضاً الكلف الأمنية والسياسيّة وهناك انعكاسات كبيرة، أضرّت، بمصالح الأردن الاستراتيجيّة وأجّلت جزءاً من المشاريع الكبرى المهمة والضروريّة لمستقبل الأردن وقطاعاته المتنوّعة. إن الأزمة السوريّة هي أزمة ضاغطة على الأردن بأكثر من مستوى، وللأردن مصلحة كبرى بحلّها، والتسريع بالحلّ، ودعم المبادرات الدوليّة، وبما يضمن وحدة سوريا الشقيقة وسلامة مؤسّساتها وحماية شعبها، وبأن تستعيد عافيتها، على قاعدة من التوافق ووقف النزيف المؤلم.. وهو ما سينعكس، حكماً، على الأزمة العراقيّة، ويساهم بالحيلولة دون الانقسام، واستعادة المكوّنات العراقيّة الأصيلة لدورها في العمليّة السياسيّة وفي الشراكة الوطنيّة دون إقصاء أو استئثار، وبنزع أيّ غطاء مفترض عن الجماعات الإرهابيّة.
رابعاً، ملف أمن الخليج؛ وهو ملف أمن وطني أردنيّ بالدرجة الأولى. وليس جديداً القول، بأن الأردن هو جزء من منظومة الأمن القوميّ العربيّ. ويرتبط الأردن مع دول مجلس التعاون الخليجي بعلاقات ومصالح وتاريخ وحاضر راهن، وأواصر أخوّة متينة، ما يجعل المستقبل واحداً ومشتركاً. وقد كان للقاء الرياض وجهود سموّ أمير دولة الكويت ولنجاح القمّة الخليجيّة الأخيرة في الدوحة وتبلور المصالحة الخليجيّة وتالياً، المصالحة مع مصر؛ كان لها دورٌ مهم ورئيسي في استعادة التنسيق العربيّ وإحياء مفهوم التضامن العربيّ. وهو ما أسهم كذلك، في فرض الأجندة العربيّة على مسار التوافقات الدوليّة الإقليميّة، وفي الحيلولة دون خروج العرب ككل من حيّز التأثير وتحول المنطقة إلى ساحة تسويات بين الأطراف الدوليّة والإقليميّة، أوشكت أن تنجح في تحييد العامل العربي، وإقامة الصفقات الكبرى على حساب المصالح العربيّة.
لقد سعى جلالة الملك المعظم، ووجّه جلالته الدبلوماسيّة الأردنيّة، للعمل على خدمة التضامن العربيّ. وكان لجولات جلالته العربيّة والدوليّة، ولزيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكيّة، ولنشاطه المكثف ولقاءاته في عمّان مع قيادات عربيّة؛ دورٌ مؤثّر وملموس في خدمة التضامن العربيّ، وفي دعم الجهود العربيّة دوليّاً، لاستعادة التوازن الاستراتيجي، وتعزيز كلّ مساعي المصالحة والتوافق العربي.
خامساً، الصراعات الطائفيّة؛ ويجدر القول هنا: إن التباين الشيعي السنّي، ليس قدراً لا مفرّ منه. إنّما هو نتيجة لتوظيفات سياسيّة، وانعكاس لأزمات المنطقة ولمناخات الاستقطاب. وإذا كان الأردن، دائماً وأبداً، يجد نفسه في الصف العربيّ، ومنافحاً عن القضايا العربيّة؛ فإن ذلك لا يعني العداء لأحد، ولا موقفاً سلبيّاً من أحد مكوّنات الأمّة الإسلاميّة الواحدة. فالهاشميّون على مرّ التاريخ هم فوق التباينات والخلافات. وهم الأكثر سعياً للتوفيق وتوحيد الصفّ. وقد قدّم جلالة الملك جهوداً كبيرة، سياسياً وتنويريّاً، للتقريب بين وجهات النظر والحيلولة دون اندلاع صراع مذهبي أو طائفي. وتبرز "رسالة عمان"، هنا، كشاهد حاضر على الرؤية الملكيّة للعلاقة بين المذاهب.
إن المواجهة اليوم هي بين المصالح وليست بين المذاهب. ومثلما عاش المسلمون السنة والشيعة وتعايشوا مع إخوانهم المسيحيين والمندائيين ومن شتى الديانات والمذاهب على مدى التاريخ بسلام وأمان ومودّة ورحمة؛ فإنهم قادىون على استعادة هذه الحياة الآمنة المستقرّة.
وفي ذات السياق، تستطيع إيران وتركيا، بإعادة التموضع، أن تبني علاقات من الثقة مع محيطها العربيّ الإسلامي. فتاريخ العلاقة طويل وزاخر بالإيجابيات. وليس من الصعب ولا المستحيل البدء بعمليّة بناء الثقة من جديد، وعلى قاعدة عدم التدخّل بالشؤون الداخليّة للآخرين، ومجابهة التحدّيات المشتركة. وتلوح بالأفق اليوم، فرصة مهمّة للتوافق على ملفات خلافيّة عديدة، من خلال دعم المبادرات الإيجابيّة، والتركيز على الجوامع، والنأي عن التمحور أو الاستعصاء.
سادساً، وعلى الصّعيد المحلي الداخلي؛ فلا بد من الإشارة إلى أن التراجع الملحوظ في زخم حراكات الاحتجاج المطلبيّة والسياسيّة، يعود إلى نجاح العمليّة السياسيّة الإصلاحيّة المتدرّجة والتوافقيّة والآمنة التي قادها جلالة الملك المعظم. ويجدر التنويه كذلك بالدور المهم الذي قام به مجلس النوّاب الأردني، والتفاعلات والحوارات التي شهدتها قبّة مجلس الأمّة، والتي مثّلت حالةً صحّيّةً، نقلت الحوار والاحتجاج من الشارع إلى مكانه الأنسب تحت قبّة البرلمان.
كما يسجّل للحراكات الشبابيّة ولقوى وتنظيمات المعارضة الوطنيّة امتلاكها الدائم للحسّ العالي بالمسؤوليّة تجاه الوطن واستقراره، وحرصها المبكر على التعبير الديموقراطي السلمي، ورفضها لمنطق الاستفراد أو التأزيم أو الإقصاء.
إن هذه المناخات الإيجابيّة، تتطلب المزيد من العمل لاستثمارها والبناء عليها، ومواصلة البرنامج الإصلاحي السياسي، بجد ودأب. أما الركون إليها والاكتفاء بها، فإنما يعني ترك الباب مفتوحاً أمام الاحتمالات. وهنا، لا بدّ من التأكيد على ضرورة مأسسة الشراكة الحقيقية وتفعيلها بين جميع مؤسسات الدولة وسلطاتها، ومع القوى السياسيّة، الفاعلة على الساحة، وبالذات القطاعات والهيئات الشبابية، باتجاه التوافق على جملة من القوانين والتشريعات الإصلاحية التي سترسم شكل الأردن الجديد. وأخص بالذكر قوانين الأحزاب واللامركزية والبلديات والانتخاب.
وقد تفضل جلالة سيدنا، بالإشارة بوضوح لهذه الحقيقة، عندما نوّه جلالته إلى أننا ونحن نخوض حربنا ضد الإرهاب والتطرف، والمنطقة مشتعلة؛ يجب أن لا ننسى أولوياتنا على الجبهة الداخلية خاصة بما يتعلق بمستقبل شبابنا وشاباتنا وتوسيع الاقتصاد وتحسين النمو لكي ينعم به أبناء البادية والحضر والقرى والمخيمات.
ويبقى، ومن وجهة نظري، أن المشكلة الأكبر التي يواجهها الأردن اليوم، هي مشكلة البطالة. وهي مشكلة يمكن حلها، بالتركيز عليها، ومنحها الأولويّة. فالبطالة لا تعني فقط الفقر أو التعطل. ولكنها تعني أيضاً التوتّر الاجتماعي وتعطيل طاقة الشباب والشابّات وفقدان الثقة بالمستقبل وإنهاك الطبقة الوسطى وإضعاف مؤسّسة الأسرة والعشيرة، كما تعني ارتفاع نسبة العازفين عن الزواج، وتنعكس على نسب الجريمة والجنوح، وتخلق مناخات مواتية للتفكير اليائس السلبيّ. لذلك، ولغير ذلك ممّا يضيق المجال بتعداده، يجدر أن يكون على سلم أولويّات الحكومة وكل قطاعات الدولة، برامج واضحة محدّدة قابلة للمساءلة والقياس، تفرض على كل مؤسّسة أو وزارة أن تحدّد دورها وبرنامجها في التشغيل المنتج وخلق فرص العمل الدائمة والكريمة للأردنيين. وأقصد كل وزارة ومؤسّسة عامّة على وجه التعيين. فالكل مسؤول والكل قادر على القيام بدوره في مكافحة البطالة من خلال مخطط شامل وتنفيذ دقيق وكل من يقصّر لا بد من محاسبته ومساءلته. وفي هذا السياق تبرز ضرورة وضع مخطط تنموي شمولي كالذي وجه به صاحب الجلالة لتقوم بإعداد استراتيجية تعالج في الأساس مشكلتي البطالة والفقر. وتقضي الحاجة كذلك لسن تشريعات جديدة، تضمن توسعة الاقتصاد ونموه ، وتشجيع القطاع الخاص لخلق فرص عمل هي بمثابة أولوية وطنية ، مع توقف قدرة مؤسسات الدولة عن المزيد من التوظيف التقليدي غير المنتج ، ومع هذا التزاحم على أبواب وسجلات ديوان الخدمة المدنية.
إن هذه المرحلة، بالذات، حيث تتعزز مكانة الأردن العالمية وفي ظل التحديات الاقليمية، تتأكد فيها فرصة الأردن في الإفادة من كل المعطيات لتحفيز النمو والاستثمار بعيداً عن سياسات الجباية وعن خلق حالة من التضخم والذي سيؤدي إلى كساد وركود. وبالطبع، فإن قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص وقانوني الاستثمار والضريبة؛ ركائز مهمة لهذا النمو، وضرورة لأن يكون الأردن رائداً في هذا المجال، بالأخص مع الخطة العشرية التي ستعلن في المستقبل المنظور وإني أتمنى أن تكون الخطة ، خطة جامعة متفقاً عليها مع الهيئات الرسمية وغير الرسمية وجميع قطاعات الوطن، لترفع مستوى تنافسية الأردن في جميع المجالات.
وختاماً، بالعزيمة والمثابرة واستثمار الفرص، وبالتمسّك بمشروع جلالة الملك عبدالله الثاني المعظم، ونهجه الإصلاحي، سيكون عام 2015م، والذي يراه كثيرون عام التحديات والتحولات الصعبة؛ هو عام الفرص والتميّز والإنجاز للأردن وللأردنيين، إن شاء الله.