عائلة الشهيد "معاذ الكساسبة" تتحدث عن مناقبه وصفاته
نشرت الزميلة الدستور تقريراً حول الشهيد الطيار معاذ الكساسبة وحياته الشخصية والعملية من خلال عائلته .
وتالياً نصه :
خُطىً متأرجحة، ومشاعر مختلطة، فوضى الكلمات، يتبعثر كلما اقتربت من مقر عزاء نصب في وسط مدينة «عيّ « الكركية، بأهلها، كما أهل الوطن، الدمثين الصابرين، في سلام قلوبهم وعمق احزانهم ونبلهم.
في الطريق الى «عيّ»، ربيع رضيع، واشجار لوز توشك ان تزهر، زيتون وشمس وتراب طهور، وما يلفت أكثر بساطة وعمق، رحابة وشهامة الناس الذين تستعين بهم لتشدك مروءتهم ، انت القادم من السلط وعمان، اربد والمفرق، عجلون والزرقاء وكل الاردن، الى مقر عزاء شهيد الوطن والواجب، معاذ صافي الكساسبة.
والدة الاردنيين، والدة البطل الطيار معاذ الكساسبة كانت تجلس هناك في قرية «عي» بالكرك في الجنوب الاردني،هذه القرية التي -كما كل مدن وقرى الوطن- تتوضأ بالضوء صبرا واحتسابا.
هالة من الحزن النبيل، الشامخ وابتسامة رضا، كل ما تراه حين تطأ قدمك داخل «صيوان» العزاء حتى تجد نشميات من كل حدب وصوب، ومنذ وقوفك بالباب، يقدنك بنات الكرك اللواتي جئن من (حمود والثنية وادر والمنشية والسماكية وبتير والقصر وكل ركن كركي شريف، الى حيث تجلس والدة الشهيد البطل معاذ صافي الكساسبة والى جوارها زوجته المهندسة انوار الطراونة وشقيقاته، محاطات بمئات الاردنيات والعربيات الحرات، اللواتي جئن لتقديم واجب العزاء بشهيد الوطن والواجب والانسانية جمعيها.
يا الله على الحزن النبيل، وذكر الله في كل ثانية، تردد هذه الام «وبشر الصابرين» كلما سلمت عليها ام او زوجة او ابنة او شقيقة جاءت تشاطرها فقدانها وليدها، وكأن من جاء للعزاء، عاد به يملأ قلبه، لتخرج ولسان حالك يقول « طوبى لهذه الام العظيمة ولعشيرة الكساسبة ولكل اهالي قرية «عي» ولاهل الكرك.
تترك الأم التي لا تمر ثانية من وقتها دون قبلة على جبينيها ويديها من معزية، وقد أخذت من حديثها المقتضب ما يشير الى ان قلبها اطمئن وعرفت ان وليدها في مكان امن هو شهيد والشهيد حبيب الله.
مواصفات شهيد .
والى زوجة البطل، التي تجلس الى جوار الأم بصمت رائع وسلام، وابتسامة كانت تظهر كلما نطقت الاسم «معاذ» وهي تروي تفاصيل ارتباطها به الى اللحظة الغاشمة التي اغتالت فرحتهما وسرقت احلام الغد.
المهندسة انوار الطراونة، زوجة الشهيد، كانت رفضت معاذ «العريس» في الامر، وسببها في ذلك مهنة معاذ، تقول «تسلل الخوف الى قلبي، فصدفة كان خبر سقوط طائرة تدريب ووفاة طيارها قد اعلن قبل اسبوعين فقط من بداية حكايتي مع معاذ.
وتضيف» مهنة معاذ، كانت دافعي لاقول لا للارتباط بطيار، ولكن ما ان رأيت صورته على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك وهو يقف في الحرم ويرتدي ثياب الاحرام، حتى زال هذا الخوف وكانت الموافقة».
وتؤكد حينها: ايقنت ان كل شيء بيد الله تعالى، وما كان «معاذ» يردد دائما وابدا، بحسب زوجته «قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا».
وعن معاذ الانسان وبعيدا عن المهنة التي أحب وعشق ودرس لينالها، قالت « كان معاذ يعشق الاطفال وهم بدورهم، كانوا ينتظرون قدومه بفارغ الصبر، فقد كان حنونا لابعد الدرجات، وذا بال طويل في التعامل والتواصل معهم».
وتزيد فيما يؤكد اننا نقف امام انسان رفض الانحناء امام الشر وادواته، ورفع الرأس عاليا في مجابهة الموت، انه كان من شجعها على اكمال تعليمها العالي والتقدم لنيل شهادة الماجستير، اذ كان يشرف بنفسها عليها ولا يتوانى عن دعمها، مؤكدا لها ان التعليم سلاحنا في كل المعارك، وهو طريقنا للنور والحق.
«معاذ»، وبحسب الزوجة وكل من عرفه كان ملتزما بواجباته الدينية وعلى اكمل وجه، تقول الزوجة، ذات مساء قرأ معاذ مقال للشيخ العريفي عن بر الوالدين، ودون مقدمات بدأ البكاء، وقال بالحرف الواحد» أظنني مقصر في حق والدي»، تقول الزوجة حينها نهرته وقلت له « لا يا معاذ انت ابن بار بهم، وبكل عائلتك»، فاجابني حينها «يجب ان اقدم لهم المزيد».فكان لاحقا ان قدم معاذ لاهله العز ولوطنه الرفعة، تماما كما وعد.
تقول»معاذ محب للعلم، ويشجع المرأة على التعليم، فقد كان خير سند لي ولشقيقاته، وكان يتابع دراستهن، هو من شجعني في دراستي للماجستير، وكان يشرف على رسالتي، كما انه كان دائم النصح لشقيقاته للاقبال على العلم والنهل منه ويسأل عن دراستهن ويتابعهن ودائم السؤال عنهن».
والاحلام جسر التواصل
وعن آخر حديث بينهما قالت كان بتاريخ 24 كانون الاول اذ ايقظني فجر ذلك اليوم، لاصلي الفجر، وقال لي «صلي الفجر وارجعي إلى النوم، وبعد أن تنتهي أنا سأخرج إلى الطيران».
وتقول «وقبيل اعلان التنظيم الارهابي عن قتل معاذ رأيته في الحلم وسألني ان كنت اقبل الزواج به مرة اخرى، واجبته بالموافقة وشرعنا الاعداد لزواجنا الثاني، لاستيقظ على خبر استشهاده في صبيحة اليوم التالي».
وللأخت في قلب معاذ حصة الاسد، تسنيم الكساسبة، شقيقة معاذ تعود بالذاكرة الى ثلاثة عشر عاما خلت، وتقول «حلم لم يبرح خيالي الى اليوم اذ استيقظت مرعوبة من ذلك الحلم الذي همس لي فيه والدي بكلمات زادت رناتها يوم سقوط طائرة معاذ على يد تنظيم الارهاب.
تقول الكساسبة، يومها كنت ووالدي في الحلم وهمس لي، معاذ رح يموت يا با .. معاذ مش ابن عيشة». وتؤكد شاطرت حلمي مع صديقتي وذكرتني به منذ ايام عندما جاءت لتعزيني باستشهاد شقيقي معاذ.
معاذ بعيون شقيقته
وعن معاذ الشقيق قالت « قبل استشهاده بمدة وفيما كنت اتوجه صباحا الى جامعتي مستقلة الحافلة تعرضت الى حادث سير، وبعثت لأفراد أسرتي الخبر عبر تطبيق «الواتس اب».. وبعد ان وصلت جامعتي وفيما كنت اجلس في قاعة محاضرتي، وصلتني رسالة على هاتفي النقال كانت من معاذ يطلب فيها ان اخرج من محاضرتي، وبعد اصرار منه، خرجت لأجده يقف امامي وصمم ان يصطحبني الى اقرب طبيب ليتأكد من سلامتي.
وبإبتسامة تقهر الدموع، التي كادت ان تفيض، لولا سبقها اسم معاذ، قالت تسنيم « معاذ رقيق القلب، وكان آخر حديث بيني وبينه يوم 23 كانون الاول وفيما كنت اغط في نوم عميق هاتفني وطلب مني ان «اصحصح» فهو يريد ان يتحدث معي.
«وبالفعل» تتابع « اخبرني انه ورفاقه تلقوا اتصالا من جلالة القائد الاعلى شكرهم على جهودهم وحيا روحهم وعزمهم».
وتضيف» تحدثنا قرابة النصف الساعة، وفي ختام المكالمة طلب مني ان أسامحه انا والاهل، وقال لي بالحرف» انتبهي على نفسك واتدفي منيح، وسامحوني». فيما قالت شقيقة معاذ أم الطفلة التي شاهد الاردنيون صورتها مع خالها معاذ، ان معاذ كان حنونا بدرجة لا توصف على شقيقاته، ففي كل مرة تزور الاردن كان يوصلها لدى عودتها الى باب الطيارة بتصريح خاص، وأكدت ان يوم ولادتها لابنتها كان في طلعة جوية ما ان انهاها حتى حضر مسرعا باكيا لعدم تمكنه من التواجد خلال خضوعها لعملية الولادة. تقول جاء يومها محملا بالحلويات وبدأ بتوزيعها على الناس، كان كثير الشكر، حتى ان دعاءه المفضل وعباراته دائمة الترديد هي «الحمد لله على نعمه التي لاتعد ولا تحصى».
وصايا معاذ
وعن اخر وصايا الاخ لاخته، قالت، على الهاتف قال لي «يا اختي يا حبيبتي بناتك أمانة برقبتك، انتبهي عليهن».
تقول الأخت كان معاذ يفرح بأبسط الاشياء وكان يحتفل بالجميع، وصمم هذا العام على اقامة حفل عيد ميلاد لوالدي ودعا اليه الجميع، كان يحب جميع افراد عائلته بلا استثناء وكذلك الاصدقاء، وبالمقابل كل من عرفه احبه واشاد بخلقه ودينه وابتسامته.
وتزيد كان معاذ يحب أسماك الزينة كثيرا، وكان يحتفظ بحوض للاسماك في منزله، وللصدفة فقد ماتت اخر سمكة في الحوض بتاريخ قتل الارهابيين لمعاذ يوم 3 كانون الثاني، الامر الذي شكل لي شخصيا صدمة، وكان «فال شر، وحزن» لم استبشر معه املا بعودة معاذ!!.
وان كان القلب لا يتسع لكثير من احاديث الزوجة والشقيقات، الكبير بالحب بالاخوة بالايمان بالصبر، فهو انما يؤكد العناية الالهية في اختيار شهداء الحق والواجب، هم احباب الله، المحظوظون برضاه ونعمه، واكثر من ذلك هم خير مثال على الانسان التقي الجميل بالحب والخير. تغادر «عي» وتترك فيها قلبك ليتخضب بلون الشفق الجميل، يلامس وداعة ام معاذ، وصبر الزوجة والشقيقات والاب والاشقاء، وزوادتك في رحلة العودة الى مدينتك والى نفسك حتى، السلام من بطن الوادي المتكئ على الجبال، شمس الاردن وايقونة ترفع رأسك وتقول يا الله احم وطني ، يا رب اعطهم الصبر والسلوان ، انا لله وانا اليه راجعون.