البترا سياحة تحتضر في مدينة خاوية على آثارها
ما إن يطل الزائر على تعرجات الطريق المؤدية إلى المدينة الوردية وسيقها، حتى يشعر بالواقع المرير الذي ما تزال تعيشه إحدى "عجائب الدنيا السبع"، ولا يلبث أن يحمل معه وهو يغادر بلدة وادي موسى، بوصفها حاضنة البترا، أسى خاصا جراء ما وصلت إليه المدينة التي يفترض أن تعج بالزائرين في ذروة الموسم السياحي الحالي.
ويبدأ الأسى برؤية سياح لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة يتجولون في الأسواق العتيقة، بمحلاتها المغلقة، وتلك التي على وشك الإغلاق، بما يوحي لروادها أن "البترا الوردية" تحولت إلى مدينة "أشباح" في وضح النهار، بخلاف أعوام ماضية كانت الحياة تدب بين تلك الآثار بالحركة.
وحين وصلت مندوبة "الغد" إلى باب فندق نبطي في المدينة، متوقعة أن يكون في ذروة إشغاله لهذا الموسم السياحي، فوجئت بالحقيقة الصادمة، المتمثلة بأنه خال من الرواد ولا أحد هناك سوى موظفيه الذين يناجون أطياف سياح كانوا قبل أعوام مضت يملأون المكان.
وسرعان ما يختفي شعور البهجة عند الزائر لدى رؤيته مدينة بحجم البترا، بعد أن باتت أغلب الفنادق خاوية على عروشها.
ويتكرر هذا المشهد "الحزين" لحاضرة الأنباط ومستعمرة الرومان في الطريق إلى مركز الزوّار، لقطع تذاكر الدخول إلى المدينة الأثرية، بوجود موظفين مرهقين ترتسم "كشرة" ضجر على محيّاهم مع ابتسامة حزينة على ما آلت إليه السياحة في البترا.
وبعد أن تدفع رسم دخول للمدينة الأثرية، بواقع دينار للأردني، تبدأ رحلتك على أرض الواقع، لتطلع على ما وصلت إليه "المدينة المنسية" كما باتت تسميها فعاليات شعبية وسياحية.
وبعد اجتياز باب حديدي صدئ، يوصلك بعد سير قليل إلى طرق ترابية ضيقة، تصل الى السيق المتعرج، الذي يحتضن السماء تارة والجبال تارة أخرى، لترى الخيول والجمال تغط منذ ساعات في نوم عميق، لم يعتلها أحد، حتى إن أصحابها هجروها وافترشوا الصخر من قلة العمل والضجر.
يطربك صدى صوت المارين في السيق وخبط أقدام "الرواحل" التي تقل الزوار المغادرين، وهي أكثر ما يسلي المرء طيلة الطريق المؤدي إلى الخزنة، لكن سرعان ما تتلاشى هذه الاجواء عندما تدب الوحشة في النفس خلال لحظات صمت أو توقف لحركة تلك الدواب.
وفي المدينة المنحوتة في الصخر، وبينما ينطلق العنان لخيال زوار المدينة الوردية، تشعر بحركة السياح تمضي بوتيرة رتيبة، بينما يجتر بائعو التحف والأدلاء السياحيون وأصحاب "الرواحل "ماضيهم الغني بالذكريات الجميلة، لعل ذلك يخفف معاناتهم.
وتطالعك أرقام رسمية "صادمة "عن مستوى انخفاض زوار البترا، من 981 ألف زائر في عام "الذروة"، 2011، إلى أقل من 300 زائر في اليوم الواحد خلال هذا العام، كما يصفه العاملون في السياحة هناك، في ظل توقعات بانخفاض هذا الرقم الى النصف، نظرا لاستمرار معوقات السياحة هناك.
وفي المقابل تقدر سلطة إقليم البترا أن يتم استقبال 2.5 مليون زائر في العام الواحد في حال استجابة الحكومة لمطالبها.
بدوره، يقر زير السياحة والآثار نايف حميدي الفايز في حديثه لـ"الغد"، أن القطاع السياحي في البترا شهد تراجعا بسبب الظروف الإقليمية التي تشهدها المنطقة العربية، مشيرا إلى أن الحكومة اتخذت حزمة من الإجراءات لإنقاذ السياحة في البترا، من شأنها أن تنعش السياحة هناك خلال الفترة المقبلة.
وشهد الشهر الحالي انخفاضا في أعداد زوار البترا إلى النصف تقريبا، مقارنة بالأشهر الماضية، التي وصل فيها التراجع إلى 35 %، بحسب الفايز.
وتمثلت القرارات بإعفاء منشآت القطاع السياحي في لواء البترا من غرامات التأخير المترتبة على ضريبتي الدخل والمبيعات التي صدرت مؤخرا.
وجاءت القرارات التي اتخذت، بناء على تنسيب من وزيري السياحة والآثار والمالية، إضافة إلى حزمة القرارات التشجيعية، لمواجهة تداعيات الظروف المحيطة التي أدت الى تراجع أعداد زوار البترا وانعكاس ذلك على أداء المنشآت السياحية، التي تعتمد تقليدياً على السوق الأجنبية.
غير أن سلطة البترا والمجتمع المحلي لم يستسلما لهذا الوضع، وواجها "التناسي" أو "النسيان" الحكومي بجملة اقتراحات من شأنها أن تعيد الحياة مجددا إلى مدينتهم.
ويفكر أصحاب الفنادق جديا بتسليم مفاتيح فنادقهم للسلطة، حسب قولهم، في حال ترك الحكومة متمثلة بوزارة السياحة وهيئة تنشيط السياحة، مدينة البترا "غارقة في براثن الإهمال والتهميش".
وتتمثل مطالب المجتمع المدني والسلطة بتحويل المدينة إلى منطقة تنموية سياحية خاصة أسوة بمدينة العقبة، بالإضافة الى تسريع إقرار قانون سلطة إقليم البترا التنموي السياحي، والعمل على تسهيل اقتراض السلطة من المنح والبنوك لإنجاز مشاريع البنية التحتية.
واقترحوا طرح مشاريع للاستثمار تهدف إلى تنويع المنتج السياحي في المدينة، ومنح إعفاءات وحوافز لأصحاب المنشآت السياحية، خاصة لمن يعمل في إقليم البترا، والترويج للمدينة كمنتج سياحي منفصل، أسوة بترويج دول مجاورة لمنتجاتها السياحية رغم الاضطرابات وعدم الاستقرار فيها.
ولم تكن الخطة الحكومية لتحفيز قطاع السياحة التي أعلن عنها في أيار (مايو) الماضي ذات أثر ايجابي على القطاع في البترا، بحسب ما أشار إليه الخبير الاقتصادي جواد عباسي، موضحا أن الخطة جاءت لمنح إعفاءات وخصومات لفنادق تعاني أصلا من قلة الزوار في البترا، ولم تستفد منها إلا فنادق العاصمة عمان.
وبين العباسي ان فنادق المملكة جميعها واجهت انخفاضا في العوائد بسبب انخفاض عدد السياح والزائرين، لكن فنادق عمان ما تزال رابحة مع هامش ربح تشغيلي يتراوح بين 19 % في الحد الأدنى، و65 % في الحد الاقصى، وبمعدل 32 % في الربع الأول من 2015، بينما عانت فنادق البترا من تراجع المبيعات.
ولم يشفع للبترا اقتحامها خريطة العالم السياحي، بعد ضم منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) منتصف ثمانينات القرن الماضي لها ضمن محميات التراث العالمي، وحصولها على لقب إحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة العام 2007.
بيد أن كل ذلك لم يضع البترا على خريطة السياحة المحلية، رغم أن الأرقام والإحصائيات التي عرضها على "الغد" العاملون في القطاع السياحي في البترا وسلطة الإقليم،
تؤكد ان 85 % من السياح يزورون الأردن لرؤية البترا، فيما يحتل وكلاء السياحة في البترا 3 مراكز ضمن قائمة أعلى 5 مكاتب جلبا للسياح في الأردن.
سائحة عراقية وابنها، وقد بدا عليهما التعب والإجهاد، أعربت عن حالة الإحباط التي أصابتها، سيما وأنها سمعت عن البترا كثيرا كموقع أثري فريد وأعجوبة من عجائب الدنيا السبع، غير أن ما شاهدته "خيب كل آمالها"، على حد وصفها.
وتقول السائحة الأربعينية أم حيدر: "الحرارة مرتفعة هنا، ومشينا مسافة طويلة حتى وصلنا الخزنة، غير أنني مللت من طول الطريق لعدم وجود خدمات يحتاجها كل سائح يزور الموقع الأثري".
وحول مستوى الخدمات في البترا ، قالت: " لا توجد خدمات إطلاقا، أنا أستعد للرجوع إلى عمان، فلا حياة هنا تشجعني على البقاء أكثر من 5 ساعات، فضلا عن ارتفاع الأسعار، خصوصا تذكرة الدخول للعرب والأجانب".
أما المواطنة الأردنية سهام أمجد، والتي زارت البترا منذ فترة مع عائلتها برفقة مجموعة من الأصدقاء، فأكدت استياءها الشديد من حال البترا وافتقارها للأماكن الترفيهية، حيث بقيت حبيسة الفندق هي وعائلتها، تقول: "من يزر البترا مرة واحدة لا يفكر بزيارتها مرة أخرى".
وأما السائح الألماني "هانز" فأبدى إعجابه بالموقع الأثري، وفي طريقة نحت المدينة الوردية بالصخر، قائلا إنه جاء إلى البترا رغم نصائح معارفه بأن المنطقة "تشهد اضطرابات وأعمال عنف".
وأكد هانز لـ"الغد" أن الوضع كان مختلفا عن نصائح أصدقائه، حيث إن الأمن والاستقرار يعدان سمة هذا البلد، لكنه انتقد عدم وجود أي نشاط يمكن ممارسته بعد انتهاء زيارة المدينة الأثرية.
الحكومة تعد بإجراءات لتحفيز السياحة
وزير السياحة الفايز تحدث لـ"الغد"، عن إجراءات جديدة مرتقبة "ستشجع السياحة" واستقطاب السياح للبترا وغيرها من مواقع سياحية في المملكة.
ويقول إن تطبيق قرار التذكرة الموحدة لدخول المواقع السياحية، الذي وافق عليه مجلس الوزراء مؤخرا، سيتم على أرض الواقع خلال الأيام القليلة المقبلة. ولفت إلى أن التذكرة الموحدة تأتي ضمن حزمة القرارات التشجيعية لقطاع السياحة، مبينا أن سعرها يبلغ 99 دولارا لـ39 موقعا أثريا وسياحيا في المملكة، ما يسهم في إطالة أمد إقامة السائح، مع منحه" فيزا" مجانية، شريطة أن لا تقل مدة إقامته في المملكة عن ثلاثة أيام.
وتسعى الوزارة من خلال هيئة تنشيط السياحة للترويج للمدينة الوردية بالتزامن مع بدء الموسم السياحي الأوروبي، والذي يبدأ منذ شهر تشرين الأول (أكتوبر) ويمتد لثلاثة أشهر، فيما يشمل التسويق مدينة البترا ووادي رم على وجه الخصوص.
بدوره، يقر رئيس سلطة إقليم البترا الدكتور محمد النوافلة بشكوى السياح، وبعدم تنوع المنتج السياحي في البترا، معولا على تنفيذ مشاريع بنى تحتية، بتكلفة إجمالية تبلغ 30 مليون دينار، وصفها بـ"الضرورية" لتنويع المنتج السياحي، وإطالة مدة إقامة السائح في المدينة.
ومن أبرز هذه المشاريع، تطوير وسط المدينة على مرحلتين، بحيث يتم إنشاء جلسات ومواقف سيارات تحت الأرض لحل الأزمات المرورية، إضافة إلى مشروع بانوراما البترا، الذي تم التباحث فيه مع مستثمر فرنسي، فيما الاتفاق الآن في طور وضعه في إطار اتفاقية قانونية ستعرض على مجلس الوزراء.
أما المرحلة الثانية من التطوير، بحسب النوافلة، فتتعلق بالشارع الرئيسي وواجهات المحلات، التي لا يوحي مظهرها بأن الزائر يجول في منطقة تاريخية.
ويشير إلى مشاريع أخرى، مثل مشروع مدخل وادي موسى، بحيث تتم محاكاة السيق في المشروع، وربطه بشارع يطل على البترا ووادي موسى، وإنشاء مركز مؤتمرات في نفس المنطقة.
وتطرق إلى مشروع الشارع السياحي الذي يمتد من وسط المدينة حتى مركز الزوار، حيث تم إعداد المخططات والدراسات اللازمة له، مع جلسات قرب مركز الزوار وعلى الطراز القديم، بشكل يتناسب مع طبيعة المنطقة بشكل عام ولا يحدث تلوثا بصريا في المكان، إلى جانب مشروع متحف البترا الممول من وكالة الإنماء اليابانية "جايكا". وتطمح السلطة، إلى رفع عدد زوار المدينة إلى أكثر من 2.5 مليون زائر سنويا بعد استقرار الأوضاع السياسية في المنطقة وإنجاز المشاريع المقترحة.
ولفت النوافلة إلى أن الفئة المستفيدة من وجود البترا في المجتمع المحلي في وادي موسى لا تتجاوز 26 % من السكان، ما يستدعي التفكير بتوسيع دائرة الاستفادة لتشمل المجتمع المحلي بكافة أركانه بتجمعاته الستة، وهي: "القصبة – وادي موسى"، و"أم صيحون – البدول"، و"العمارين – منطقة البيضة"، و"الحي الجنوبي – الطيبة"، و"الراجف"، و"دلاغة".
وأشار إلى أن هناك مخططات جاهزة للتنفيد، كمشروع القرية التراثية التي سيتم بناؤها في منطقة البيضة، وتتضمن محلات تجارية وإقامة حلقات فلكلورية ومطاعم ومحاكاة طريقة حياة الأنباط، بحيث يخرج الزائر من الفندق ليلا، دون أن يشعر بالملل، عبر نقله بحافلات صديقة للبيئة من الطريق الخلفي مرورا بالبيضة، ثم العودة إلى مركز الزوار(نقطة انطلاقة الزائر الأساسية).
كما أشار إلى أن هنالك مشروعا آخر سيتم بالشراكة مع الديوان الملكي وصندوق التشغيل والتدريب والتعليم المهني والتقني، وبالتعاون مع مكتب ميسم الهندسي في عمان، لعمل تصاميم لإنشاء القرية السياحية البيئية، بحيث تكون الأولى من نوعها في الأردن، لتضيف منتجا سياحيا جديدا، حيث سيتم تحديد أسعار خاصة للزوار الأردنيين، مرجحا أن يتم طرح عطاء البنية التحتية الشهر المقبل.
ولا يتردد الدكتور النوافلة في القول إن "المجتمع المحلي لا يرى إنجازا على أرض الواقع، ما يؤشر إلى أن هذه المشاريع ستبقى حبرا على ورق إن لم تتحرك الدولة لإنقاذ هذا الواقع المرير".
ويؤكد أن الوقت الحالي أفضل وقت لإنجاز هذه المشاريع، في ظل ارتفاع نسبة البطالة في المنطقة، ورغبة الدولة في توفير فرص العمل للأردنيين، فضلا عن أن انخفاض عدد السياح يسهل إنجاز المشاريع والتحضير لأعوام ازدهار مستقبلا.
من جانبهم، يقول مواطنون من إقليم البترا إنهم "سمعوا عن مشاريع في وسائل الإعلام أو خلال الزيارات التي تتم لمدينتهم، أو عبر الجسم الرسمي في المدينة، لكن كل ما سمعوه لا يعدو كونه مشاريع على ورق، لا يلمسون له تطبيقا".
ويلفت الدكتور النوافلة إلى أن العائق أمام تنفيذ هذه المشاريع "مالي بالدرجة الأولى"، مشيرا إلى أن الملك عبدالله الثاني اطلع على جزء من المشاريع التي تطمح السلطة إلى تنفيذها، خلال زيارة جلالته الأخيرة في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، مشيرا إلى أن جلالته أعرب عن أمله بأن يزور البترا مجددا وأن تكون المشاريع المطروحة قيد التنفيذ.
ويشير إلى أنه تم تخصيص مبلغ 2 مليون دينار ضمن موازنة العام 2015 للبترا، و10 ملايين دينار في العام 2016، و7 ملايين في العام 2017.
وأضاف: "طلبنا من الحكومة كتاب التزام مالي لطرح عطاءات لباقي مشاريع البنية التحتية، لكننا تفاجأنا برد دائرة الموازنة العامة بأن هذا المبلغ كان مخصصا ضمن مشاريع المنحة الخليجية، ولم تصدر موافقة عليها".
ويفسر الدكتور النوافلة هذا الرد بأنه "تم إدراج سلطة إقليم البترا ضمن المنحة الخليجية وتخصيص 35 مليون دينار لمشاريعها، في شهر تموز (يوليو) العام الماضي،
لكن لم تتم الموافقة على ذلك من قبل الجهات المانحة". ويقول: "إننا وبعد إغلاق كافة الأبواب في وجهنا لجأنا للدين، حيث نسعى حاليا للحصول على قرض بقيمة 10 ملايين دينار من الصندوق العربي للإنماء في الكويت، ونعتقد أن الموافقة وشيكة".
ويتحدث النوافلة بمرارة قائلا: "وضعنا المالي سيئ جدا، فقد كنا نأمل أن يصل دخلنا المباشر من بوابة التذاكر إلى 22 مليون دينار، لكن هذا الرقم لم يتحقق، بسبب عدم وجود سياحة، وأخشى أن نصل مرحلة لا نستطيع معها دفع رواتب الموظفين".
ويضيف: "ازدادت الأمور سوءا، عندما أصدر البنك المركزي كتبا رسمية موجهة للبنوك الأردنية بعدم تقديم مزيد من القروض للفنادق والمنشآت السياحية في البترا".
إخراج البترا، رمز الأردن الأثري والحضاري، من حالة السبات التي تعيشها سياحيا، يحتاج لقرارات وتنفيذ، بحسب ما يجمع ممثلو فاعليات شعبية وسياحية، ممن يرون أن المشكلة الرئيسية لوضع المدينة الوردية اليوم هي في "تهميش متعمد من قبل الحكومة في عمان" لهذا الكنز الحضاري والأثري العظيم.