ملامح التهجير تتضح في غزة .. "هندسة إبادة" تعيد إنتاج النكبة

في ظل تسارع التطورات العسكرية في قطاع غزة، تتكشف ملامح مشروع صهيوني خطير ينفّذ بخطوات منهجية ومدروسة، تحت غطاء ما تسميه حكومة الكيان المحتلّ المتطرف "عمليات أمنية".
لكن التحليلات والشهادات الميدانية توضح أن ما يجري ليس سوى "هندسة إبادة" شاملة تستهدف الإنسان الفلسطيني ومكانه، وتعيد إنتاج النكبة بمسميات وأدوات جديدة.
تأسيسا على ذلك يبرز سؤال: هل بدأ التهجير بالفعل؟ والإجابة المباشرة تأتي بالإيجاب من مراقبين في الشأن السياسي، في تصريحات لـ"الغد"، مؤكدين أن التهجير بدأ بالفعل وعلى نحو متسارع.
وبحسب الخبراء، فإن الكيان الصهيوني ينفّذ خطة محكمة لإفراغ غزة من سكانها عبر أدوات تدميرية شاملة، تشمل تدمير أكثر من 60 % من البنية التحتية المدنية، واستهداف المستشفيات والمدارس، وفرض حصار خانق يمنع الغذاء والماء والدواء.
وحذروا من خطورة المجريات الحالية؛ بوصفها تطبيقا عمليا لمشروع صهيوني قديم - جديد، يتجسد اليوم في غزة من خلال خلق "بيئة طاردة" تدفع السكان الفلسطينيين قسرا إلى النزوح، ضمن ما يمكن وصفه بـ"هندسة الموت الجماعي"، التي تدار بعقلانية عسكرية وسياسية مبرمجة.
ومقابل ذلك؛ أكدوا أن الموقف الأردني الرافض للتهجير، بقي حجر الأساس في مقاومة هذا المشروع، وصمام أمان لحماية الإقليم من الانزلاق نحو فوضى إستراتيجية وإنسانية لا تحمد عقباها.
وتتجاوز أهداف هذه السياسة التدميرية البعد العسكري، لتدخل في صميم التوجهات السياسية الإستراتيجية، ومن أبرزها؛ تصفية القضية الفلسطينية، والهروب من المأزق الديمغرافي، وابتزاز الدول المجاورة لفرض وقائع على مصر والأردن ودول أخرى، ودفعهم لتحمّل عبء تهجير الفلسطينيين، وتحويل "قضية الاحتلال" إلى "أزمة لاجئين".
وفيما أشاروا إلى أن التهجير القسري في غزة يحمل تداعيات إستراتيجية بعيدة المدى، بينوا أيضا أن حكومة الاحتلال تستثمر الزمن والأزمة الإنسانية في إنتاج واقع جديد، مبني على "سياسة الأمر الواقع".
التهجير يلغي حق العودة
من جهته، حذر الخبير الأمني والإستراتيجي د. بشير الدعجة، من أن التوجهات الصهيونية الأخيرة تكشف بوضوح أننا أمام محاولة منظمة لإعادة تدوير مشروع قديم جديد هو مشروع التهجير القسري للفلسطينيين الذي شكّل منذ نكبة العام 1948، حجر الزاوية في العقيدة الصهيونية التي قامت أساسا على فكرة إفراغ الأرض من سكانها الأصليين.
وأكد الدعجة أن هذا المشروع يمارس اليوم في قطاع غزة "بوقاحة غير مسبوقة" تحت غطاء العمليات العسكرية التي يروّج لها الاحتلال أمام المجتمع الدولي.
وحول ما إذا كان التهجير قد بدأ فعلا؛ أشار الدعجة بالإيجاب، مؤكدا أن الوقائع الميدانية تشهد بذلك.
وأوضح أنه حين يتم تدمير أكثر من %60 من البنية التحتية المدنية في غزة حسب تقارير الأمم المتحدة، وحين يمنع إدخال الغذاء والدواء، وتقطع الكهرباء والمياه بشكل كامل، وحين تستهدف المستشفيات والمدارس التي تؤوي النازحين؛ فإن ما يجري لا يمكن تفسيره بأنه مجرد قتال ضد تنظيمات مسلحة، بل هو سياسة ممنهجة لخلق بيئة طاردة تدفع المدني الفلسطيني قسرا نحو الخروج.
وأشار إلى أن ما نشهده ليس نتيجة جانبية للحرب، بل هو هدف إستراتيجي معلن عبر تصريحات لقيادات صهيونية تحدثت صراحة عن حلول خارج غزة، وعن إعادة توطين الفلسطينيين في دول أخرى.
وفصّل هذا التوجه، مؤكدا أن الهدف الأول هو تصفية القضية الفلسطينية من جذورها، إذ إن التهجير يعني عمليا إلغاء حق العودة، وتكريس سياسة فرض الأمر الواقع، بما يجعل العالم يتعامل مع الفلسطينيين كقضية لاجئين بلا أرض بدلا من الاعتراف بهم كشعب صاحب أرض محتلة، وهو ما يضرب جوهر القرارات الدولية ذات الصلة، وفي مقدمتها القرار 194 الخاص بحق العودة والقرار 242 الرافض للاستيلاء على الأرض بالقوة.
وقال إن الاحتلال يحاول كذلك الهروب من المأزق الديمغرافي، حيث يدرك أن وجود أكثر من مليوني فلسطيني في غزة يمثل تهديدا ديمغرافيا وفكريا لمشروع الدولة اليهودية النقية، ولذلك يسعى إلى التخلص منهم عبر الترحيل القسري.
وتابع الدعجة: "أما البعد الثالث في هذا السياق؛ فهو ابتزاز الدول المجاورة، حيث يراهن الاحتلال على خلق واقع جديد يجبر مصر أو الأردن أو غيرها من الدول على تحمّل أعباء التهجير، ما يؤدي إلى تحويل القضية الفلسطينية من قضية احتلال إلى قضية لاجئين بلا سيادة ولا أرض.
وعلى الصعيد الإستراتيجي، بين أن هذه السياسات تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الإقليمية من جديد؛ فإذا نجح مشروع التهجير فسنكون أمام موجة لجوء جديدة تعيد خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط، وتخلق بؤر توتر اجتماعي وأمني واقتصادي داخل الدول المستقبلة.
وحذّر من مخاطر التغيير الديمغرافي القسري، إذ يمثل تهديدا مباشرا لهوية الدول وتركيبتها الداخلية، وهذا ما يفسر الموقف الأردني الحاسم الذي يعتبر التهجير تهديدا وجوديا لا مجرد أزمة عابرة.
وأكد أن نجاح هذا النموذج في غزة قد يفتح الباب أمام تطبيقه في الضفة الغربية وحتى في القدس، ما يعني أن القضية الفلسطينية برمتها ستدخل في مرحلة التبخر التدريجي.
وأشار إلى انعكاسات مباشرة للتهجير القسري على الاستقرار الإقليمي، مبينا أن مصر تواجه تهديدا مباشرا إذا تم تنفيذ ما يعرف بالخيار السيناوي الذي طرحته شخصيات إسرائيلية بإقامة مناطق لجوء مؤقتة في شمال سيناء، وهو ما يشكّل خطرا على السيادة المصرية ويفتح أبواب الفوضى على حدودها الشرقية.
وفيما يتعلق بالأردن، شدد على موقفه الواضح والصريح، إذ إن أي تهجير للفلسطينيين يعني عمليا محاولة لفرض الوطن البديل وهو ما يشكّل خطا أحمر أردنيا لما يحمله من تهديد مباشر لتركيبة الدولة الأردنية وأمنها القومي، مضيفا إن الداخل الأردني يرفض بالإجماع مثل هذه السياسات.
أما بالنسبة للمنطقة ككل؛ فرأى أن التهجير سيخلق بيئة خصبة للتطرف والإرهاب؛ لأن شعبا يسلب أرضه ويطرد قسرا لن يبقى صامتا، بل سيبحث عن أدوات جديدة للمقاومة قد تكون أكثر راديكالية.
واستعرض مجموعة من الحجج والأدلة التي تدعم هذا التحليل؛ من أبرزها التصريحات الرسمية الصادرة عن مسؤولين في الحكومة الصهيونية التي تحدثت بوضوح عن البحث عن حلول خارج غزة وتشجيع الهجرة الطوعية، وهي عبارات سياسية مخففة لمعنى التهجير القسري.
ولفت إلى دور الوقائع الميدانية في دعم ذلك، حيث تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن أكثر من 85 % من سكان غزة نزحوا داخليا منذ بدء العدوان وهو نزوح قسري تم بفعل القصف والحصار.
كما أشار إلى أن ما يجري اليوم يعيد إلى الأذهان السوابق التاريخية التي حدثت في عامي 1948 و1967، لكنها هذه المرة تتم بأدوات أوسع نطاقا وبحضور إعلامي دولي يوثق كل شيء بالصوت والصورة.
وزاد أن الموقف الدولي يدعم هذه الرؤية، حيث وصفت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية ما يجري في غزة بأنه يرقى إلى جريمة حرب وتطهير عرقي، وهو اعتراف دولي يضفي شرعية على مواقف الرافضين للتهجير.
وفيما يتعلق بالموقف الأردني ودوره الإستراتيجي، أكد الدعجة أن الأردن أعلن بشكل واضح أن التهجير القسري للفلسطينيين خط أحمر، لا لأنه يمس الفلسطينيين فحسب؛ بل لأنه يمس الأردن ذاته من حيث التوازن الديمغرافي والهوية الوطنية والأمن القومي.
وأشار إلى أن الأردن لا يتحرك من منطلق عاطفي بل من منطلق مصلحة وطنية عليا، حيث عبّر جلالة الملك عبدالله الثاني في أكثر من مناسبة وبلهجة صريحة عن أن الأردن لن يكون بديلا لفلسطين، ولن يقبل بأي حل على حسابه، وهذا الموقف الإستراتيجي يشكل حجر أساس في حماية الاستقرار الإقليمي.
وأكد أن ما يجري في غزة ليس مجرد فكرة عابرة، بل مشروع ينفّذ بخطوات مدروسة ومنظمة، مضيفا إنه إذا لم تتم مواجهته بموقف سياسي عربي صارم ودعم دولي حقيقي؛ فإن نتائجه ستكون كارثية على فلسطين أولا، وعلى الدول العربية ثانيا وعلى الأمن العالمي ثالثا.
وأضاف إن الموقف الأردني الرافض لهذا المشروع يشكل اليوم صمام أمان حقيقي يمنع تفجير استقرار المنطقة، ويؤكد أن أي محاولة لفرض الوطن البديل ستواجه بجدار منيع من الرفض الشعبي والرسمي في آن معا.
اللعب على عامل الوقت
بدوره، أشار المحلل السياسي د. عامر السبايلة، إلى اعتماد الصهيونية في إستراتيجيتها الحالية على فكرة إطالة أمد الحرب، وتعميق الأزمة الإنسانية في قطاع غزة بشكل متعمد، معتبرا أن هذه السياسة تستند إلى عامل الوقت بوصفه أداة ضغط متصاعدة على الفلسطينيين.
وقال السبايلة إن هذا الأمر يجعلنا، بحسب تقديره، أمام مشهد مرشح لمزيد من الضغوطات الكثيفة في المرحلة المقبلة، نتيجة تعاظم الكارثة الإنسانية وانخفاض القدرة الفلسطينية على مقاومة تداعياتها.
وأكد أن الاحتلال يسعى من خلال هذه السياسة إلى فرض واقع جديد تمهيدا لما يعتبره حلولا عملية، مشيرا إلى تجلّي هذا الواقع اليوم في السعي إلى إخراج الفلسطينيين من أراضيهم تحت عنوان "الحل العملي"، وهو ما يبدو أنه يستند إلى استغلال اللحظة التاريخية المرتبطة بذكرى تنقّل الفلسطينيين القسري من منطقة إلى أخرى في محطات نكبتهم السابقة.
وشدد على أن الرفض السياسي لسياسات التهجير هو عنصر مهم وأساسي، إلا أن هذا الرفض يجب ألا يبقى في إطار الموقف النظري فحسب، بل يجب أن يترجم لإجراءات عملية واضحة تضمن عدم السماح لأي طرف إقليمي أو دولي بالتورط في تمرير أو تسهيل أي شكل من أشكال التهجير القسري للفلسطينيين.
وأضاف إن جوهر الموقف الصهيوني حاليا يقوم على فرض سياسة الأمر الواقع عبر خلق مأساة إنسانية يصعب تجاهلها، وهي مأساة تهدف في مضمونها إلى دفع الأطراف المختلفة إلى التعاطي مع نتائج الكارثة بدلا من التصدي لجذورها، وبالتالي يتم تمرير التهجير كخيار ضروري بحكم الظروف لا كجريمة يجب وقفها ومنع تحولها إلى نموذج يمكن تكراره مستقبلا.
وخلص السبايلة إلى أن ما يحدث اليوم يستدعي قراءة عميقة للمشهد السياسي والإنساني، والتعامل معه بوصفه محاولة لصياغة واقع إقليمي جديد من بوابة المأساة، داعيا لاتخاذ موقف عربي حازم وخطط استباقية تحول دون تمرير هذا المخطط تحت أي ذريعة.
الانتقال من المراوغة للمباشرة
من جهته، حذر رئيس الجمعية الأردنية للعلوم السياسية د. خالد شنيكات من التهجير القسري للفلسطينيين، بوصفه انتهاكا واضحا وصريحا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، مشيرا إلى أن هذا التهجير يعكس أقصى درجات التطرف الصهيوني المدعوم بأهداف دينية وأيديولوجية تسعى إلى التوسع في المناطق المجاورة للكيان.
وأشار شنيكات إلى تصريحات رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو التي أكد فيها وجود "منّة روحية مقدسة" للتوسع في لبنان وسورية والأردن ومصر، بالإضافة إلى شروع إسرائيل بفرض سيادتها على الضفة الغربية واحتلال قطاع غزة بشكل كامل.
ولفت إلى توجه السياسة الصهيونية في هذا الملف نحو الحسم الكامل، حيث لم يعد هناك غطاء دبلوماسي أو مراوغة كما في السابق، بل أصبحت تصريحات قادة حكومة الاحتلال واضحة وصريحة حول أحلامهم في توسيع "دولتهم"، والفرصة التاريخية التي أمامهم لتنفيذ مخططاتهم التوسعية في المنطقة.
وحذر شنيكات من أن التهجير المتوقع للفلسطينيين قد يحول المنطقة إلى برميل بارود، مهددا حالة الاستقرار التي تضرب المجتمعات والأنظمة السياسية والدول، كما حدث عقب نكبة فلسطين في العام 1948.
وشدد على أن هذا التهجير ليس هروبا من العنف، بل تم بموجب عنف ممنهج بهدف إحلال شعب مكان آخر، وهو ما يخلق جرحا عميقا وفرصة لكل المنظمات المتطرفة وغير المتطرفة لإثارة ثورات وانقلابات عسكرية.
وربط هذا التهجير بالنكبة التاريخية التي حدثت في العام 1948 وما تبعها من أحداث عنيفة تشمل انقلابات عسكرية واغتيالات وتصفيات، مشيرا إلى تشابه ما يحدث الآن وإلى حد بعيد تلك المرحلة من حيث النتائج والتداعيات.
وأشار إلى اتجاه السياسات التي يتبناها بنيامين نتنياهو والحكومة الصهيونية، بثبات، نحو التنفيذ على الأرض، رغم صمت واسع من الدول الغربية والعالمية، بالإضافة لما تمثله هذه السياسات من تهديد مباشر للدول المجاورة مثل الأردن ومصر، اللذين لا يواجهان الاحتلال بشكل مباشر لكنهما يشعران بالخطر والتهديد المحتمل جراء هذه الخطوات الصهيونية.
محاولات للتجميل
وبحسب وكالات أنباء دولية، تتجه القيادة العسكرية الصهيونية نحو تنفيذ خطة شاملة لاحتلال مدينة غزة بالكامل، إذ تتجاوز تفاصيل هذه الخطط، مجرد إجلاء السكان، لتشمل تطويق المدينة والسيطرة العملياتية على كامل أحيائها.
وأشارت مصادر عسكرية إلى أن التوغل البري في قلب المدينة سيبدأ خلال الأسابيع القليلة المقبلة، مع تسريع الجدول الزمني للعمليات.
وفي ضوء هذه الخطوات، يفرض جيش الاحتلال تهجيرا قسريا لسكان غزة باتجاه الجنوب، وسط تحذيرات دولية وإنسانية من أن المناطق الجنوبية الحالية غير قادرة على استيعاب أعداد النازحين الهائلة.
لذلك، تخطط القوات الصهيونية للانسحاب من جزء من الأراضي الواقعة تحت سيطرتها جنوب القطاع لتحويلها إلى "منطقة إنسانية" جديدة تستقبل السكان المهجرين، ما يشير إلى تعقيد الأوضاع الإنسانية المتدهورة أصلا في القطاع.
وعلى الصعيد العسكري، تشارك في العملية عدة فرق عسكرية تضم ألوية احتياط، في إطار خطة الكابينت التي أقرها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في 8 آب (أغسطس) الحالي، والتي تقضي بإعادة احتلال قطاع غزة تدريجيا بدءا بمدينة غزة.
في المقابل، دانت جهات محلية ودولية الخطط الصهيونية، معتبرة أن توفير الخيام والملاجئ للسكان الذين يجبرون على النزوح جنوب القطاع مجرد محاولة لتجميل جريمة التهجير القسري الجماعي التي تستمر منذ أكثر من 22 شهرا.
وأعرب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عن قلقه العميق من أن عمليات النقل القسرية هذه ستفاقم المعاناة الإنسانية وستؤدي إلى خلق "فخ دموي" مشابه لمناطق مكتظة بالنازحين سبق أن شهدتها رفح وخان يونس.
ويبقى هذا التصعيد العسكري والإنساني في قطاع غزة مصدر توتر بالغ على المستوى الإقليمي والدولي، إذ لفتت المؤشرات إلى أن الاحتلال يسعى لتغيير جذري في التركيبة السكانية والسياسية في القطاع، وسط مخاوف من تداعيات خطرة على الاستقرار الإقليمي وحقوق الفلسطينيين. الغد