ربما يكون البيان الصادر عن عشائر الدعجة حول " داعش"، هو أهمّ حدث سياسي في البلاد منذ توقف الحراك الوطني الشعبي؛ بالأساس، توقف هذا الحراك ليس لتحقق أهدافه، ولا جراء الخضوع، وإنما بدافع ذاتي حرصا على الكيان الوطني في مرحلة الزلازل الإقليمية التي عرفتها المنطقة منذ 2011 وتصاعدت بسبب الدعم الغربي الخليجي للإخوان أولا، ثم للسلفية المقاتلة بكل أطيافها لاحقا.
قبل الحكومة والمعارضة معا، وقبل الأحزاب بكل اتجاهاتها، انبرت دوحة عشائرية أردنية أصيلة إلى مبادرة استنكار إعلان تنظيم "داعش" الإرهابي ـ فرع الأردن، عن مهمته " كمركز للخدمات اللوجستية وارسال المقاتلين والأسلحة إلى العراق وسوريا؛ الدعجة اعتبروا ذلك الإعلان "استفزازا للشعب الأردني وعبثا بأمن البلاد"، ووجهوا تحذيرا صريحا إلى الإرهابيين: "ان ابناء عشائر الدعجة لن يقفوا مكتوفي الايدي تجاه تلك الدعوات المشبوهة والمضللة والحاقدين والمتربصين بأمن البلد واستقراره، وسنعمل مع المخلصين من ابناء عشائر الاردن على تفويت الفرصة على كل من يحاول المساس باي جزء من الشعب الاردني وسيادته وقيادته، وسنكون لهم بالمرصاد، رضي من رضي، وغضب من غضب".
الحس الوطني والسياسي والاستراتيجي عند أبناء العشائر الأردنية، وتصوّرهم المبدع لقانون العلاقة بالدولة الوطنية (الامتثال لسيادتها في السلم، والدفاع عنها وقت الخطر)، يعبر عن نفسه، مرة بعد أخرى، ويؤكد النظرية السسيو ثقافية التي تبناها الكاتب دائما، والتي ترتكز على محورية العشائر الأردنية في الحركة والدولة الوطنية؛ ولقد عرفت عشائر الدعجة كيف تجعل الطبقة السياسية والنشطاء (وخصوصا الليبراليين) و"اليساريين" و"القوميين"، كيف يخجلون من أنفسهم؛ فبينما صمتوا وترددوا إزاء المخاطر الإرهابية التي تهدد البلاد، لم يكتفِ شباب الدعجة بالتحليل والتحذير، بل أظهروا أسنة الرماح، وهي نفسها التي رسمت حدود الأردن إزاء غزوات الإرهابيين دائما، وخصوصا منذ العشرينيات، حين تجرّع إخوان محمد بن عبدالوهاب، الهزيمة تلو الهزيمة على ثرى بلدنا.
الجيش العربي الأردني جيش وطني، متماسك ومحترف؛ وهو موضع إجماع أردني شامل وموضع تقدير قيادات عربية حتى تلك التي تختلف مع الحكومة الأردنية سياسيا، (كالقيادة السورية التي وجهت، مؤخرا، التحية للجيش العربي الأردني والشعب والعشائر، بسبب الأدوار الايجابية في الأزمة السورية). لكن التحدي الذي تمثله " داعش" هو، في أساسه، اجتماعي ثقافي سياسي؛ فحركة " داعش" ليست كالحركات السلفية المقاتلة الإرهابية الأخرى، وإنما لها تركيب خاص يتمثل في المزج بين القبلية والسلفية التكفيرية ـ في ما يشكل استعادة تاريخية للحركة الوهابية ـ ولذلك، فإن خطر " داعش"، أردنيا، لا يكمن في تسلل مسلحين أو سيارة مفخخة الخ مما تعالجه القوات المسلحة، وإنما يكمن الخطر ذاك في تسلل الفكرة، وتزاوج قوة العشائر بقوة التنظيم التكفيري على أرضية الأزمة الاقتصادية - الاجتماعية التي تعيشها البلاد، والهجوم الأميركي ـ الليبرالي على الهوية والدولة الوطنية.
كان للدعجة شرف إطلاق النداء! ويذكرنا ذلك باللحظة التاريخية المضطربة في العام 1920، حين أطلق الزعيم الوطني اللواء علي خلقي الشرايري نداءه "لبناء رابطة مدنية للعش الصغير" في شرق الأردن الذي كان يعيش ـ وما يزال بين نيران فلسطين وسوريا والعراق، ويذكرنا بنداء حسين باشا الطراونة لعقد المؤتمر الوطني العام 1928، مؤتمر تأسيس الحركة الوطنية والاستقلال والبناء.
كان للدعجة شرف الامساك باللحظة التاريخية، وستتوالى النداءات العشائرية بالاتجاه نفسه، نحو مؤتمر وطني عشائري يقول لا قاطعة لـ"داعش" والتكفير والإرهاب، ويعلن أن العشائر الأردنية لن تكون مقرا ولا ممرا للفكرة الهدامة الإجرامية التي تقوم على الدمج بين العصبية القبلية والعصبية التكفيرية التنظيمية.
العشائر الأردنية قادرة على اجتراح الفعل السياسي التاريخي. وهي، في الواقع، القوة الاجتماعية السياسية الوحيدة في البلاد التي تستطيع ذلك؛ كل ما هو مطلوب من الجهات المعنية أن تترك نشطاء العشائر وشأنهم في التحرك والتنظيم والفعل السياسي والثقافي.
فكرة ساذجة تلك التي تعتقد بإمكانية مواجهة السلفيين بالسلفيين، والمقدسي بأبي بكر البغدادي؛ في السابق كان لدى المعنيين شكوى من أن العشائر تحمي المطلوبين من السلفيين المقاتلين والتكفيريين وتحول دون الاجراءات الأمنية والقانونية نحوهم... حسنا ها هم الدعجة أطلقوا الشرارة، وستتفاعل وسيتحقق الاجماع العشائري الوطني على نبذ " داعش " وسواها، واعلان الأردن منطقة خالية من الوباء الذي يجتاح المنطقة؛ اتركوا العشائر تعمل، فهي التي تستطيع.