هوا الأردن -
استضافت الجامعة الاردنية فرع العقبة وزير التربية والتعليم الاسبق الدكتور عيد الدحيات حيث ألقى محاضرة بعنوان (ملاحظات على استراتجيات التعليم في الاردن ) بحضور مساعد رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور حامد البدور وعمداء الكليات وأعضاء هيئة التدريس وحشد كبير من الطلبة.
ورحب الدكتور البدور بالضيف داعيا الحضور الى الاستفادة من التجربة الثرية والخبرة الطويلة التي يتمتع بها الدكتور الدحيات في مجال التعليم بكل مراحله في المملكة وما سيقدمه من اضاءات على ما يواجهه هذا القطاع من تحديات والإستراتيجية المنطقية التي تمكننا من تجاوزها وصناعة جيل قادر على المسير قدما بحركة النهضة الوطنية الشاملة.
وفي محاضرته اشار الدكتور الدحيات الى ان استراتيجيات التعليم التي وضعت في السنوات الماضية قد انصبت بشكل رئيسي على الجوانب المعرفية الأكاديمية وعلى مكونات العملية التعليمية وكيفية إصلاحها وتطويرها، في حين تم إهمال جوانب بناء شخصية الطالب وهويته وغرس منظومة من القيم الأساسية في وجدانه.
والحقيقة أن استراتيجيات التعليم - العام والعالي- التي انبثقت عن عدد من المؤتمرات والخلوات واللقاءات التي عقدت لرسم معالم طريق الإصلاح لم تول هذا الجانب الخطير الاهتمام الذي يستحق بحيث تكون هنالك استراتيجية تفصيلية لتربية الأجيال خلقياً ومسلكياً وربطهم بوطنهم وأمتهم العربية والإسلامية من خلال برامج مفصلة واضحة.
ومما لا ريب فيه أنه في الوقت التي تصح فيه مقولة أن تقدم المجتمع بكل أبعاده مرتبط بالتعليم فإنه، وبالقدر نفسه، تتحكم عناصر الواقع السائد في توجيه الأجيال، وقد تعيق في أحيان كثيرة حدوث التغيير المنشود. إن التحدي المطروح، كما أراه، هو أن لا يقع التعليم ومؤسساته في الأردن ضحية لبعض أمراض المجتمع الذي فيه نعيش، فلقد وجدت المدارس والجامعات من أجل إصلاح المجتمعات وحل مشاكلها، أما إذا أصبحت مرآة تعكس المجتمع فحسب، فإنها تكون عندها قد فشلت فشلاً ذريعاً في أداء مهماتها وتحقيق أغراضها ورسالتها لهذا فقد حملت لنا السنوات الماضية تنامي ظواهر مقلقة، منها، على سبيل المثال، ظاهرة العنف في مؤسساتنا التعليمية والتي أخذت، مع الأسف، أشكالاً واتجاهات عشائرية وجهوية وحتى عائلية.
إن المطلوب من المخططين وواضعي الاستراتيجيات التربوية إعادة النظر، وبشكل منهجي مدروس وشامل في العلاقة بين الطالب ومدرسته وجامعته بحيث تقوم المؤسسات التعليمية بتأهيل طلبتها مسلكياً وثقافياً من خلال برامج مدروسة يضعها مختصون، تهدف إلى إيجاد جسم طلابي واعٍ ومنتمٍ لوطنه، بعيدا عن كل أشكال التعصب وضيق الأفق والتطرف.
إن غرس هذه القيم الحميدة في وجدان الطلبة يشكل المادة الأولى التي تجمع كل الأجزاء المتناثرة في وحدة واحدة تجعل من الأردن مرجلا melting pot تنصهر في داخله كل التناقضات والاختلافات مقدماً للعالم أنموذجاً فريداً في التنوع ضمن الوحدةvariety - in- unity، ونثبت كلنا من خلاله أن الاختلاف حق، بل وأن هذا الاختلاف هو أساس الحقوق الأخرى، وهو أيضاً مصدرها وجوهر أي فكر يتعلق بالإنسان وكرامته؛ كما أنه كذلك اعتراف بالغير وحقه في التمتع بخصوصيته وبالتالي في حقه في الوجود وفي الحياة كما إن الخلق مع المعرفة، والتربية مع التعليم، هما الضمانات الأكيدة لأعداد الكوادر البشرية التي يحمي بها المجتمع نفسه، فلنبدأ بوضع خارطة طريق واضحة ومحددة للتعامل تربوياً مع الأجيال هادفين إلى ربطها (أي الأجيال) مع شعوبها وأوطانها وإعدادها لمواجهة المستقبل الذي يحمل في طياته الكثير من النذر الخطيرة التي تهدد وجود الأوطان والشعوب. وعلى واضعي الاستراتيجيات التربوية البعد عن الحديث في المجرد وفي المطلق. فالنجاح في الحياة مرتبط بالسلوك القويم وتهذيب النفوس والتسامح وليس بالتعليم والمعرفة فحسب.
هذه حقائق بسيطة معروفة أدى عدم التركيز عليها وتجاهلها إلى ضياع سنوات كثيرة من أعمار أبنائنا وبناتنا، وأوصلت الكثير من طلبتنا الجادين ذوي الأخلاق الرفيعة والأنفس الكريمة إلى الغربة والعزوف عن المشاركة والإصابة بحالة من عدم الاكتراث والإنهاك النفسي.
على واضعي الاستراتيجيات والمخططين التربويين أن يأتوا بآليات جديدة لتعميق العلاقة بين المدرسة والبيت، وإشراك أولياء الأمور بشكل أكثر فاعلية وجدية في حل المشكلات، وأرى أن الأمور تستدعي التنسيق بين جميع مؤسسات الدولة التي تُعنى بالأجيال وتربيتهم وإعدادهم، وبخاصة وزارة التربية والتعليم والجامعات ووزارة الأوقاف ووزارة الإعلام ومؤسسة رعاية الشباب، وذلك من أجل وضع استراتيجية للتوجيه الوطني تشكل منبراً يتم من خلاله حوار ألدولة ممثلة بهذه المؤسسات وغيرها، مع الشباب.
وأقترح أن يكون من ضمن هذه الإستراتيجية تحديد ساعة واحدة كل أسبوع في المرحلة الثانوية تسمى ساعة الحوار يقوم خلالها معلمون مدربون لهذا الغرض بشرح موضوع معين أو وجهة نظر ما لهؤلاء الطلبة، ويتبع ذلك حوار ونقاش. ولابد من التوسع في هذا الحوار والنقاش ليشمل جوانب هامة تتعلق بتاريخ الأردن والتحديات التي تواجهه في كافة المجالات، وشرح السياسات والتوجهات العامة للدولة وإجراء النقاش حولها. إن من شأن ذلك - إذا ما تم- أن يبقى طلبتنا على اتصال مع إيقاع الحياة في بلادهم وعلى معرفة بهموم الناس ومشاكلهم، ويبقيهم على اطلاع على المواقف السياسية والقرارات المتخذة في الدولة بشكل عام، وهكذا يشعر الشباب أنهم مشاركون وعلى دراية بما يجري في أوطانهم، فترتاح أنفسهم ويتعمق حب الوطن في عقولهم وأفئدتهم.
إن من الأخطاء التي ارتكبت وما زالت ترتكب وجود استراتيجيتين منفصلتين للتعليم، واحدة للتعليم العام وثانية للتعليم العالي، (وكأنهما شيئان منفصلان الواحد عن الآخر)! إن التعليم يشكل بكل مراحله مسارا واحدا يجب أن تكون له استراتيجية واحدة تعالج التعليم ومشاكله منذ رياض الأطفال إلى ما بعد مرحلة الدكتوراه. فالتعليم بشقيه العام والعالي عملية واحدة متصلة حلقاتها ومكوناتها، حيث الكثير من مشاكل التعليم العالي متأتية من الرواسب الآتية من التعليم العام والعكس صحيح. فلا بد، إذن، من وضع إستراتيجية واحدة للتعليم في الأردن، وهذا يعني ضرورة وجود مجلس واحد يخطط للتعليم أقترح أن يُسمى مجلس التعليم يندمج فيه كل من مجلس التعليم العالي ومجلس التربية والتعليم.
وإذا ما أخذ بهذا الاقتراح، فإنه سوف يخدم عملية التخطيط ويؤكد على استمراريتها وانسيابيتها وشموليتها لكل مراحل التعليم وتكاملية المناهج التعليمية فيها، كما ينسق الجهود ويصهرها ضمن مسرب تعليمي وتربوي واحد. وسنشهد عندها اختفاء الكثير من المشاكل والمعيقات الحالية الموجودة بين التعليم العالي والعام، وسيجد أبناؤنا الطلبة أن مسيرتهم الأكاديمية والتربوية مسيرة متواصلة ومتجانسة، لا انفصام بين أجزائها ومكوناتها وحلقاتها الدراسية، حيث يتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل طبيعي يمتاز بوحدة السياسات ووحدة القرارات ووضوح الخط الدراسي وسلاسته واختفاء العقبات والعراقيل الموجودة حالياً.
إن الإدارة السياسية للدولة هي التي تنشد التغيير لمواجهة المستجدات، وتعبر هذه الإدارة عن ذلك بالتطوير المستمر للإدارة التربوية في مؤسسات التعليم من حيث وسائلها وأساليبها وطرقها، باعتبار ذلك الخطوة الأولى في تنمية الإدارة وتطويرها في الدولة بشكل عام.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: من سيقوم بتطوير الإدارة التربوية ويضع إستراتيجيتها؟ هل هم هذه الإدارة (أقصد التربوية) ورجالها في شتى مواقعهم في مؤسسات التعليم وهم في الأساس سبب قصورها وعجزها وعدم فعاليتها؟ فمن يا ترى يجب أن يضطلع بوضع الاستراتيجيات التربوية ومتابعة تنفيذها؟
يكمن الجواب، ربما، في إيلاء وضع هذه الإستراتيجية لمجلس التعليم المقترح في هذه الدراسة الذي يجب، والحال هكذا، أن يكون أعضاؤه مزيجا من الأكاديميين المتميزين ومن غير الأكاديميين من رجال الفكر ورجال الدولة المشهود لهم بالتمييز والإنجاز. إن من الخطأ، كما أرى، ترك تطوير التعليم للأكاديميين وحدهم، تماماً مثل خطأ ترك الحرب للعسكريين وحدهم. إن إستراتيجية مثل هذه مرتبطة بالضرورة برؤية يجب أن تكون شاملة لعلاقات كل مكون من مكونات الدولة مع غيره ضمن البنية الكاملة الشاملة للوطن.
وهذا يحتاج بطبيعة الحال لوجود منظور سياسي وليس منظورا أكاديميا تربويا فنيا فحسب. وكلنا يعرف أن الفني يكون عادة أسير جزئيات وتفاصيل قد تحجب عنه الصورة المترابطة الكاملة، وقد تضعه أدبيات المهنة في جو من تناقض الآراء واختلافها بحيث تغيب عنه الأساسيات والكليات ووحدة السياق العام لعملية الإصلاح من جميع جوانبها ومساراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فإصلاح التعليم بحاجة إلى رؤية قادة ورجال دولة وليس رؤية موظفين فقط. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أرى أنه من الحكمة مناقشة هذه الإستراتيجيات التربوية التي يضعها مجلس التعليم المقترح والموافقة عليها من قبل كل من لجنة التربية والتعليم في مجلس النواب ومجلس الأعيان قبل الشروع في تنفيذها.
كما يجب من وجهة نظري مراجعة هذه الخطة وتطويرها ومتابعة تنفيذ بنودها بشكل مستمر ودوري من قبل مجلس التعليم وكل من لجنتي التربية والتعليم في مجلس النواب والأعيان.
يجب على أية إستراتيجية مستقبلية للتعليم في المملكة الأردنية الهاشمية أن تأتي بحل لمعضلة امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة (التوجيهي)، فقد أصبح هذا الامتحان بوضعه الحالي غير مقبول حيث صار مصدر خوف وإزعاج وقلق للطلبة وأولياء أمورهم، كما أصبح إلى حد ما امتحاناً أمنياً يشرف على تنفيذه وحسن سيره جهاز الأمن العام بدلاً من وزارة التربية والتعليم، ولا يعقل أن يستمر الحال هكذا بحيث يوضع الطلبة في أجواء من الخوف والرعب من ناحية، كما لا نرضى، من ناحية أخرى، أن يلجأ أبناؤنا وبناتنا من طلبة المدارس لممارسة الغش في الامتحانات التي أساءت لهم ولسمعة المشرفين عليه من كوادر وزارة التربية والتعليم. وأرى أن من الصواب إلغاء الامتحان بصورته الحالية.
وعلينا أن نتذكر أن هذا الامتحان كما هو الآن امتحان قبول للجامعات فحسب، وليس امتحانا من امتحانات وزارة التربية والتعليم التي ينتهي دورها الآن بشهادة المدرسة فقط. لهذا فهو امتحان على الجامعات القيام به، بحيث يصبح لكل جامعة أردنية امتحان قبول خاص لها، تتولى هي وضع أسئلته وتصحيحها ويتم القبول فيها حسب نتائجه، ومن الأفضل أن تكون امتحانات القبول الجامعية هذه إلكترونية ( ( on-line، يتقدم لها الطالب الذي أنهى الدراسة الثانوية حسب شهادة مدرسته.
وبما أن الجامعات الأردنية الرسمية والخاصة تغطي تقريباً مساحة الوطن جغرافياً، فإن كل واحدة منها تضع امتحان قبول لها يأخذ بعين الاعتبار الأحوال التعليمية والاجتماعية للطلبة في المنطقة التي توجد فيها. ويستطيع أي طالب من أي مكان في المملكة أن يتقدم لامتحان أي جامعة أردنية يريد الدراسة فيها.
فلنترك لجامعاتنا العامة والخاصة الحق في اختيار طلابها حسب امتحان تضعه هي شريطة موافقة هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي على هذه الامتحانات للتأكد من استيفاء هذه الامتحانات للشروط التي تضعها هذه الهيئة، هذا مجرد اقتراح، ولكن هنالك بالتأكيد بدائل أخرى لامتحان التوجيهي الحالي، على المخططين وواضعي الإستراتيجيات التربوية إيجادها.
ومما لا شك فيه أن عدم إيجاد حلول لامتحان التوجيهي أو بدائل له على مدى أكثر من خمسين عاماً (أول امتحان توجيهي كان عام 1962/1963) دليل كافٍ على قصور الإستراتيجيات التعليمية وعدم قدرة القائمين عليها على التطوير وحل المشكلات والإتيان بالجديد.
إن بناء الشخصية الطلابية الواثقة من نفسها والمعتزة برأيها يتطلب، بالإضافة إلى التربية المسلكية الخلقية، تغيير المنهجية العقيمة البائسة المتبعة في المدارس (وفي الجامعات) والتي تعتمد على الإملاء والتلقين وخزن المعلومات في ذاكرة الطلبة. على المخططين التربويين الإدراك أن غاية التعليم والتربية خلق الوعي عند الطالب وليس تزويده بمجموعة من المعارف والمعلومات، إن منهجية التلقين والإملاء مسؤولة عن جعل أبنائنا مجرد مستقبلين وحفاظا، يرددون ما يسمعون حيث يقعون فريسةً سهلة لأرباب الكلام والديماغوجيين والمتطرفين. إن الحق علينا جميعاً، في البيت وفي المدرسة، لأننا لم نعودهم على تحليل ما يسمعون والشك فيه، كما لم ندربهم على التوصل إلى قناعات من خلال إعمال العقل واستعمال التفكير والمنطق.
إن أهم وسائل الاتصال بين المعلم والتلميذ في سن الطفولة هو أن يسمع المعلم أكثر مما يتكلم، يشجع تلاميذه على الكلام ومن ثمّ يناقشهم فيما يتكلمون. إن هذا الأسلوب البسيط، أن يسمع المعلم أكثر مما يتكلم، يوجد عند الطالب أهم قيمة في التعليم وفي الحياة كذلك، وهي الشعور بأهميته وبالتالي احترامه لنفسه واعتزازه بقدراته، ولهذا، يجب الاعتراف أن الكتاب وحده عاجز عن إحداث التغييرات المطلوبة في إنماء القدرات وفي خلق الاتجاهات الإيجابية وترسيخ منظومات القيم والفضائل. وتبقى معظم مناهجنا مناهج مركزية جامدة تعتمد على مجموعة من الكتب المقررة المطلوب إكمالها من الغلاف إلى الغلاف. وهكذا اكتسب الكتاب نوعاً من القدسية واعتبر المفتاح للمعرفة والتعليم والتعلم.
على المخططين أن يركزوا على دليل المنهاج وليس على الكتاب وحده، وعلى الزيارات خارج المدرسة واستضافة المحاضرين، وعلى المعسكرات الكشفية والإرشادية ومعسكرات العمل، وغير ذلك من النشاطات اللاصفية التي تبقي الطالب على اتصال مباشر بالناس والمجتمع. إن ربط الطالب مع المجتمع يتطلب كذلك ربط ما يتعلم الطالب في المدرسة مع ما يشاهده ويمارسه في حياته اليومية. فلماذا، مثلاً، لا نعطي أمثلة لتلاميذ المدارس في البادية وفي الأرياف والقرى مأخوذة من بيئتهم، ولماذا لا يشجعون على تبصر ما عندهم من ظواهر اجتماعية سلبية ويفكرون في إيجاد الحلول لها.
كما لابد، كما أعتقد، من ربط التعليم بمفهوم المهنة عند الفرد؛ والتربية بمفهوم المهنة هي في واقع الأمر ربط بين عالم المدرسة وعالم العمل، حيث يصبح الطلبة مدركين وبشكل تدريجي لقدراتهم. وهذا يعني كذلك بلورة مفهوم الصيرورة الحياتيةcareer في مراحل متقدمة من أعمار التلاميذ، ومساعدتهم على اكتشاف ميولهم ورغباتهم. إن هذا كله يلعب دوراً أساسياً في توجيه الطلبة نحو التعليم المهني والتطبيقي كونهما مجالان خصبان للإبداع والإنجاز الفردي. وتوجيه الطلبة نحو التعليم المهني وإنشاء مؤسسات تعليمية له يجب أن يكون من طليعة اهتمامات المخططين وواضعي إستراتيجيات التعليم.
سيشهد المستقبل القريب ازدياد الترابط والتداخل بين مختلف أقطار العالم، ولهذا لن تستطيع أية دولة عزل نفسها عن الدنيا في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات. وسوف تزداد معرفة الناس بلغات غيرهم من بني البشر مما يمكنهم من الوصول إلى المعلومات التي يمكن أن تحجز عنهم لأسباب مختلفة. وسوف يشهد النظام التربوي في الأردن ربطاً بين سياسات التعليم وبين أنماط التغيير المتوقعة في كل الميادين قد يفرض هذا وضعاً صعباً على الأردن في ضوء ما يلي:
المشكلة السكانية وأثرها على التعليم والتربية وعلى النسيج الاجتماعي للوطن. تعتبر نسب ازدياد السكان في الأردن من المعدلات العالية عالمياً، كما أن التوزيع العمري يختلف كذلك إذ تصل نسبة من هم تحت سن الخامسة عشرة إلى أكثر من 50% من السكان. أضف إلى ذلك موجات الهجرة من اللاجئين العرب وبخاصة من سورية والعراق. وهذا يعني ازدياد الضغط على فرص التعليم والعمل وعلى مؤسسات التعليم العالي وبخاصة المدارس الحكومية. وقد يؤثر هذا على صمود الكثير من المبادئ وخاصة حق الناس في التعليم والعمل، وعلى مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، كما تؤدي هذه الزيادة إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر.
تناقص في الموارد على مستوى الفرد وعلى مستوى الدولة مما قد يؤدي إلى عدم توفر التمويل اللازم للتعليم خاصة في زمن المديونية التي ترهق كاهل الدولة، وتضع عليها التزامات لابد من الوفاء بها. فإذا كان التقدم والتحديث مرتبطان بالتوسع في التعليم وتحقيق مستوى رفيع له عن طريق توفير كافة مستلزماته من أجهزة ومبان حديثة ومعلمين أكفياء وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على أحد، فكيف يمكن أن يتحقق ذلك في زمن نحتاج فيه لضبط الإنفاق العام، وفي زمن لا تستطيع فيه الجامعات الرسمية رفع رسومها الدراسية على طلبة يشكو أولياء أمورهم من ضيق العيش وغلاء الأسعار وكثرة الضرائب؟
لا يزال الشعب الأردني يعيش تحت سيطرة ظروف اجتماعية تجعله يعتبر الدولة بمثابة الأب الذي عليه واجب رعاية أسرته وتوفير كل متطلبات الحياة لها. وهذا أمر يتنافى تماماً مع روح الزمن القادم (وحتى الحاضر) الذي يعتمد فيه الأفراد على أنفسهم ومهاراتهم الفردية كوسائل وحيدة للعيش والبقاء. إن كل هذه العقبات والمعيقات تتطلب وجود أجهزة كفؤة للتخطيط والمتابعة وتقديم المعلومات والبيانات والإحصاءات والحقائق عن المشاكل التي سوف تواجه المؤسسات التعليمية وخاصة مؤسسات القطاع العام التربوي. وهكذا، لابد من أن يبحث المخططون وواضعو الاستراتيجيات التعليمية التربوية عن مصادر للتمويل خارج موازنة الدولة يمكنها من تغطية كلف التعليم المتوقعة. وقد يكون هذا الأمر من أكبر التحديات التي سوف تواجه المخططين التربويين في مقبل الأيام.
المعلم هو حجر الزاوية في البناء التعليمي والتربوي. فلا بد إذن من أن تركز الإستراتيجيات على توفير جميع الوسائل والامتيازات التي تؤدي إلى نجاحه في ممارسة مهنته. فلا بد أولاً من تطوير آليات اختيار المعلمين وتدريبهم وتأهيلهم. فمن غير المعقول أن يكون المؤهل العلمي هو الشرط الوحيد لمزاولة مهنة التعليم، دون التأكد من شخصية وسوية من نودعهم أمانة تعليم الأجيال. ولهذا، لابد من جعل التعليم مهنة لها ضوابطها وقواعدها وأصولها، كما لها امتيازاتها المالية التي تجعل منها عملاً يتم التنافس من أجل ممارسته كوسيلة عيش كريمة ومحترمة. فالمعلم الكفؤ، المعتز بنفسه وبعمله هو الذي يمهد الطريق نحو المستقبل الواعد. وبدونه تبقى الخطط والإستراتيجيات أقرب إلى الأماني والأحلام منها إلى التطبيق في الواقع.
إن من الجائز أن نسأل هذه الأيام: أين دور المعلم التقليدي الذي عرفناه جميعاً في حياتنا الدراسية، في المدرسة وفي الجامعة؟ ألم يكن المعلمون مثالاً يحتذى لنا عندئذ؟ أليس المعلمون هم الذين فتحوا عيوننا على السياسة ومحبة تاريخنا ووطننا وأمتنا، وجعلوا منا القوميين واليساريين والإسلاميين، في وقت لم يسمع الناس فيه بوزارة التنمية السياسية؟!
إن التحدي الأكبر هو إعادة تلك الفترة الذهبية التي كان المعلم فيها قائداً وقدوة، وهذا يتم فقط عن طريق إعطائه جميع حقوقه دون منة بحيث تكون مهنة التعليم، كما كانت في السابق، وسيلة توفر لصاحبها حياة كريمة محترمة تضع المعلم في طليعة السلم الاجتماعي. وعلينا أن لا ننسى في هذا المجال أن معظم الذين عملوا وأبدعوا وأجادوا كموظفين في الجهاز الإداري الأردني جاءوا من وزارة التربية والتعليم. كما لابد من التوقف عن جلد الذات ومهاجمة النظام التربوي الأردني، فجميع من تولى مناصب في الدولة الأردنية منذ بداياتها الأولى إلى زمننا هذا قد تعلموا في مدارس وزارة المعارف ووزارة التربية والتعليم، وتعهدهم النظام التربوي ورعاهم بخير ما تكون الرعاية. ويرجع الفضل في نجاح الدولة الأردنية إدارياً إلى مخرجات وزارة التربية بالذات من الشباب الذين أثبتوا جدارة كبيرة عند توليهم المسؤولية في شتى وزارات ومؤسسات الوطن، كما ساهموا أيضاً بجهود مشكورة كبيرة في خدمة الأشقاء العرب ومساعدتهم في بناء مؤسسات تعليمية مزدهرة ومتقدمة.
فالشكر موصول للمعلم الأردني الذي بذل كل جهد ممكن لرفعة الوطن وخيره وصلاحه.