الموت يغيب المفكر الإسلامي محمد قطب
توفي صباح أمس عن 95 عاما المفكر الإسلامي محمد قطب، أحد أبرز أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وشقيق أحد أعمدته الشهيد سيد قطب، بعد أن قدّم للمكتبة الإسلامية عشرات الكتب والمؤلفات في الفكر الإسلامي، ودرّس مفكرين وعلماء وأشرف عليهم في جامعة أم القرى.
شهد محمد قطب محنة الإخوان المسلمين و"آل قطب" في سجون الحقبة الناصرية، واستقر به المقام لاحقاً في السعودية، ليستأنف المقاربة ذاتها والأفكار التي لم يحد عن خطوطها العامة لأخيه الأكبر سيد قطب، وهو ما يجعل الرجل موضع اتهام لاحقاً من قبل بعض "السلفيين السعوديين" بالوقوف وراء صعود توجه في الساحة السعودية يجمع بين أسس المدرسة السلفية التقليدية المعروفة من جهة، وأفكار سيد قطب من جهة أخرى، وأطلقوا على هذا الاتجاه مسمّى "القطبيين الجدد".
يتأسس تصور محمد قطب للإصلاح السياسي على "المنظور الجذري" في التغيير، الذي يفترض وجود معركة كبرى بين المشروع الإسلامي والجاهلية المعاصرة المحيطة به، مع فتح المعركة على ساحتين رئيسيتين، الأولى داخل العالم الإسلامي في مواجهة الحكومات التي تأسست في حقبة الاستعمار ولا تطبق الشريعة الإسلامية، والثانية مع "الخارج" أي العالم الغربي الداعم لهذه الحكومات، الذي يخلق العقبات والقيود دون تطبيق الشريعة الإسلامية وعودة الإسلام إلى الحكم.
أغلب كتب محمد قطب، وربما جميعها، تصب في المحصلة في سياق التأكيد على أنّ بند "الحاكمية الإلهية" جزء عضوي من موضوع التوحيد والعقيدة الإسلامية، وعلى عدم جواز الفصل بين العقيدة وبين تطبيق الشريعة الإسلامية وهيمنة الإسلام على مجالات الحياة كافة، وأنّ أي تصور غير ذلك هو تصور جاهلي ومنحرف، وبالضرورة فإنّ الإسلام لا يمكن تطبيقه وتحقيقه على الأرض من دون إقامة دولته وتطبيق أحكامه.
ولعلّ عناوين مكتبة محمد قطب كفيلة بالتأكيد على هذه الرسالة التي تستغرق أفكاره السياسية؛ ابتداءً من "جاهلية القرن العشرين"، مروراً بـ"الإنسان بين المادية والإسلام"، و"شبهات حول الإسلام"، و"هل نحن مسلمون"، و"منهج التربية الإسلامية"، و"مذاهب فكرية معاصرة"، وصولاً إلى "لا إله إلاّ الله منهج حياة"، و"هلم نخرج من ظلمات التيه"، "العلمانيون والإسلام"، "حول تطبيق الشريعة الإسلامية"، "قضية التنوير في العالم الإسلامي".
إلاّ أنّ الكتاب العمدة في تقديم مقاربة محمد قطب لموضوعة الإصلاح السياسي وأولياته ومراحله أو بعبارة أخرى "منهج الحركة" يبقى كتاب "واقعنا المعاصر"، الذي يحاجج فيه بوضوح عن مقاربته الفكرية، ويرد على مقاربات وتصورات أخرى للإصلاح السياسي في الخطاب الإسلامي المعاصر.
"واقعنا المعاصر".. روافد الانحراف وخرائطه
يجري محمد قطب مجرى سيد في الانطلاق من التصور العام لحسن البنا في الإصلاح والتغيير وبضرورة بناء الحركة الإسلامية التي تحمل هذا المشروع، وفي الوقت نفسه التأكيد على محورية مفهوم "الحاكمية الإلهية" في مختلف المراحل، وعلى مبدأ المفاصلة السياسية للحكومات القائمة، باعتبارها أنظمة جاهلية لا تلتزم بالحكم الإسلامي.
قد يكون الجانب الأوسع الذي ساهم فيه الشقيق الأصغر هو التأكيد على أهمية "التربية" في مشروع الإصلاح وضرورة منحها الوقت الكافي، باعتبارها رافعة الحكم الإسلامي وأساسه، وتحذيره من التساهل في هذه العملية أو حرق المراحل وصولاً إلى مواجهة سياسية غير متكافئة.
من هذه الزاوية، تحديداً، تُقرأ مقاربته النقدية لما يعتبرها "ثقوباً" في مسيرة حسن البنا ومشروعه الإصلاحي. إذ إنّ البنا سارع في اكتساب الجماهير وضمّهم إلى الحركة الجديدة دون أن يدركوا جوهر المشروع وطبيعة ميدان المعركة، ودون أن يتلقى الكثيرون القسط الوافر من التربية، التي تؤهلهم للمواجهة والمحنة والصبر على "عقبات الطريق"، فكانت النتيجة مواجهة قاسية قبل أوانها دفعت فيها الحركة الإخوانية "كلفة" كبيرة.
في تفسيره لأهمية "التربية" يقدم محمد قطب شرحاً كبيراً لمسار الانحراف المتراكم منذ اللحظات الأولى في التاريخ الإسلامي، حيث بدأت الفجوة تتسع بين مفاهيم الإسلام الصحيحة وممارسة المسلمين، سياسياً واجتماعياً، ما ولد مع مرور الوقت انحرافين متصلين لا ينفصلان، الأول في تصورهم لحقيقة الإسلام والعقيدة والالتصاق بين التوحيد والممارسة، بين الإيمان والعمل والمشاعر، وهو ما أدى إلى الانحراف الآخر في السلوك والممارسة.
بيد أنّ قطب يميز بين الانحرافات المختلفة في التاريخ الإسلامي والانحراف الأكبر في الواقع المعاصر، حيث تغيرت العلاقة في وجدان المسلمين وعقولهم بينهم وبين الإسلام، وبدأ "الغزو الفكري" يؤتي أكله في انتشار "التصورات العلمانية"، التي تفصل بين الدين ومناحي الحياة، وتريد عزل الإسلام عنها، في استنساخ للتجربة الأوروبية التي عانت من النزاع بين الكنيسة والسلطة والعلم.
ما هو أخطر من هذا وذاك بناء نظم سياسية جديدة في العالم الإسلامي لا تطبق الشريعة الإسلامية، وبروز اتجاه فكري يرى عدم صلاحية الإسلام للحكم، ما يهدد عقيدة المسلمين بصورة رئيسة.
وفقاً لهذا التصور، لموارد الانحراف ومظاهره ومساره، يقدم محمد قطب مقاربته العامة في نقد المشاكلة بين التجربة الأوروبية والإسلامية، والتأكيد على الفارق الكبير بين الإسلام والمسيحية، ما يعني خطأ تبني أي مذهب من المذاهب الفكرية المعاصرة والاعتماد على "المشروع الإسلامي" من خلال مصادره الداخلية، وتحديداً القرآن الكريم والسنة الصحيحة.
التربية، حصرياً، طريق بناء "القاعدة الإسلامية"
لمواجهة هذا الواقع يرى محمد قطب ضرورة البدء بإعادة تصحيح مفاهيم المسلمين حول الإسلام وعقيدته وشريعته وأحكامه لمواجهة التصورات المنحرفة عنه، والعودة مرة أخرى إلى "الحكم الإسلامي".
تترافق هذه العملية، التي تتوازى لدى حسن البنا مع مرحلة "التعريف"، بعملية تكوين "الصفوة المؤمنة" وتربيتها على المفاهيم الصحيحة، وإعدادها في الوقت نفسه لتكون لديها قدرة على مواجهة الجاهلية المحيطة وتحمل تبعات ذلك من محن وصعوبات كبيرة، ما يؤهلها، في المحصلة، لتكون بمثابة "الأعمدة الراسخة" للقاعدة الإسلامية المطلوبة، التي تشكل الرافعة الرئيسة للحكم الإسلامي لاحقاً.
يشرح محمد قطب أهمية التربية في مقاربته، بالقول "لا بد من ارتياد الطريق الطويل.. المجهد الشاق.. البطيء الثمرة.. المستنفد للطاقة، طريق التربية لإنشاء "القاعدة المسلمة" الواعية المجاهدة، التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم".
في المقابل، فإنّ الجماهيرية التي حظيت بها جماعة الإخوان المسلمين، منذ السنوات الأولى، لم تسمح للبنا ببذل الجهد المطلوب ومنح العناية الخاصة للتربية المركزة، التي تمثل الشرط الرئيس لإقامة القاعدة الصلبة المطلوبة. ويحيل قطب ذلك إلى عدم توضيح طبيعة الدعوة منذ البداية، وبصورة أساسية "إقامة الحكم الإسلامي"، فجاء كثيرون إلى الإخوان، وهم يعتقدن أنها جماعة صوفية أو جمعية خيرية، أو حتى حزباً سياسياً، ولم يدركوا أبعاد المواجهة المتوقعة مع الحكومات المحلية والخارج، لذلك انفضّت أعداد كبيرة عند بدء المواجهة- المحنة.
خطأ البنا، كما يُلمح إليه قطب، أنه خلط بين "العواطف الدينية"، الموجودة بالفعل لدى كثير من الناس وتكوّن القاعدة الإسلامية المطلوبة. فافترض –البنا- أنّ القاعدة موجودة، لكنها تحتاج إلى تجميع، لا إلى عملية بناء شاقة وطويلة. بينما كان المطلوب هو التركيز على تربية متكاملة "حين يتم – في فترة التربية- إعداد الصفوة التي تواجه الجاهلية أول مرة ذلك الإعداد الخاص المطلوب لها، فإنّ أموراً كبيرة تتم في الحقيقة في آن واحد".
ولعلّ المسارعة في اكتساب الجماهيرية، دون اكتمال شروط بناء "الصفوة"، خلق ثغرات كبيرة، وتوازى ذلك مع "تعجل" آخر في استعراض قوة الجماعة داخلياً وخارجياً، دون إدراك لحجم القوة المطلوبة ولأبعاد المواجهة القاسية والكبيرة، كما حصل عندما خرج الإخوان للمشاركة في حرب العام 1948 في فلسطين، فلفتوا انتباه الحكومة المصرية والقوى الغربية لهذه القوة الصاعدة مبكراً.
يتصور محمد قطب، إذن، حركة الإخوان (أو الحركة الإسلامية عموماً) في سياق معركة قاسية مع حكومات داخلية وقوى خارجية، ما يستدعي الاهتمام الكبير بإعداد نخبة قادرة على المواجهة والصبر من جهة، والحرص – من جهة أخرى- على عدم التورط في صراعٍ مبكر، يؤدي إلى ضربات قاصمة.
التربية المطلوبة ليست ذات نسق فكري أو وجداني- إيماني فقط، إنّما ذات سمة شمولية، وإن كان قطب يركز على ثلاثة أبعاد، الأول بناء اليقين والإيمان، والثاني الأخوة الإسلامية العميقة، والثالث احترام النظام والالتزام بالتنظيم والصبر على الطريق الطويل.
وفي الوقت الذي يرفض فيه وضع معايير أو محددات زمنية أو إجرائية للوقت المطلوب والكافي للتربية ولتشكل القاعدة الإسلامية، وحجمها المقصود، فإنّه يضع ذلك في عبارة عامة وهي "قاعدة مقبولة"، ويقارب بين النموذج المفترض للقاعدة و"القاعدة الأفغانية"، مستخدماً سمتين رئيستين؛ الأولى الواعية، والثانية المجاهدة.
القاعدة المسلمة هي رافعة التغيير السياسي ودرعه
يوضح محمد قطب الوظيفة الرئيسة للقاعدة الإسلامية باعتبارها السند والرافعة للحكم الإسلامي المطلوب، أو الأعمدة التي يتأسس عليها البنيان. إذ يرى أنّ التوجهات السياسية الأخرى في العالم الإسلامي لها سند خارجي يمنحها الدعم المطلوب، والمقصود الدول الكبرى، أمّا "الحركة الإسلامية" فهي في معركة مع "الخارج"، لذلك فإنّ الحل الوحيد هو بناء "الروافع الداخلية".
في المقابل، يرى أنّ الصدام مع السلطة قبل وجود هذه القاعدة هو بمثابة "عمليات انتحارية لا طائل وراءها"، مشيراً إلى خطأ يقع فيه جيل من الشباب المتعجل الذي يسعى إلى المواجهة قبل اكتمال الشروط، ولا يقدر "القوة المطلوبة".
على الجهة الأخرى، هنالك من يطلق عليهم محمد قطب "جيل الشيوخ"، الذين طال بهم العمل في الحركة الإسلامية، ولم يجدوا ثماراً قريبة لذلك، فإنهم مع مرور الوقت يتخلون عن مجهود التربية الشاق، ويتجهون إلى العمل السياسي في مؤسسات الحكم القائمة، ظنّاً منهم أنّ ذلك كفيل بإقامة الحكم الإسلامي.
في مقابل هذا وذاك، هنالك اتجاه ثالث من المسلمين المقيمين بالغرب، والمنخرطين في المؤسسات العلمية والأكاديمية، يقصد به – غالباً- مشروع "أسلمة المعرفة، ويظن أنّ الحكم الإسلامي يأتي من خلال تقديم الحلول العلمية والنظريات الإسلامية في مواجهة المشكلات الاقتصادية والسياسية، ويقفز هذا الاتجاه على الأبعاد العقدية والسياسية الواقعية لطبيعة المواجهة القائمة بين مشروع "الإصلاح الإسلامي" وبين المشاريع الأخرى والقوى الخارجية الداعمة له.
الحلقة الغائبة بين بناء "القاعدة" وإقامة "الحكم"
في صُلب أفكار محمد قطب حول الإصلاح والتغيير تأكيد واضح على رفض المشاركة في اللعبة السياسية وعدم قبول الديمقراطية، سواء باعتبارها آلة للوصول إلى الحكم أو حتى غاية نهائية له، ويرى أنّ هذه الطريق غير منتجة ولا مثمرة، وأنّ الداعين لها يقعون في أخطاء متعددة، فهم أولاً يسوِّغون الدخول في مجالس تشريعية لا تحتكم إلى الإسلام، وهو ما يراه موضع "شبهات".
فضلاً عن أنّ هذا الخيار "يُميِّع القضية الإسلامية"؛ فبدلاً من المطالبة بتحكيم الشريعة الإسلامية يصبح الصراع حول قوانين وسياسات مختلفة، ويخرج بالمهمة الإصلاحية عن هدفها الأساسي وهو تعليم الناس أهمية الحكم الإسلامي وارتباطه بالعقيدة، وكأنّ الإسلاميين يقعون في التناقض بين أقولهم وأفعالهم.
فوق هذا وذاك لا يعوّل على مخرجات هذه الطريق واقعياً، ويرى أنّ المحصلة ستكون الحيلولة دون الحركات الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية.
ولا يكتفي برفض الديمقراطية والمشاركة السياسية، بل يضع حدّاً لتولي المسلم الوظائف الرسمية، بخاصة ذات الطابع السياسي، وتحديداً المواقع القريبة من السلطان، ومن ذلك موقع الوزارة.
لكن، وهو يصر على طريق التربية الطويلة، رافضاً الاستعجال باستخدام القوة والديمقراطية والحلول العلمية، فإنّه لا يُفرِج عن رؤيته الخاصة في آلية استلام الحكم، مكتفياً بالإشارة إلى أنّ المطلوب هو تشكيل القاعدة الإسلامية وثبات "الصفوة المؤمنة" وتحمُّلها للابتلاءات، ما سيجلب تعاطف الرأي العام معها.
وهو يرى أن المطلوب ليس انتظار استكمال التربية للأمة الإسلامية بأكملها، فهذا غير ممكن واقعياً، لكن تأسيس القاعدة المتينة القوية، وهي أعمدة البناء المتماسكة الراسخة، ثم تنضم الجماهير إليها لاحقاً، فتكون بمثابة الأحجار بين هذه الأعمدة.
ولعل التساؤل هنا يبرز حول "الحلقة" التي تصل بين بناء القاعدة الإسلامية وثبات الصفوة والتفاف الرأي العام حولها، وإقامة الحكم، إذ تبدو الصيغة مفتوحة، دون تحديد، هل يتم ذلك بآلية الانقلاب العسكري أم الثورة المسلحة أو البيضاء أم اللجوء إلى وسائل أخرى؟.
يقول قطب " ثم إنّ نجاح هذه الصفوة في الصمود للكيد هو الذي يشكل في الحقيقة نقطة التحول في خط سير الدعوة، لأنه يعطف القلوب نحو أولئك المؤمنين الذين يتلقون هذا القدر الهائل من البطش والتعذيب دون أن يتحولوا عن الحق الذي يؤمنون به، فيكون صمودهم شهادة لهذا الحق، تجتذب نفوساً جديدة، تؤمن به وتجاهد في سبيله، فتتسع القاعدة وهي على ذات القدر من المتانة وقوة التأسيس".