طاهر المصري يكتب : على ماذا نختلف ..؟؟
يُثير الدهشة والاستغراب معاً، ذلك التجاذب السياسي الدائر بين بعض السياسيين والاعلاميين في بلدنا، حول ما يتسرب من معلومات أو اجتهادات أو تحليلات ذات صلة بما يسمى ( خطة كيري للسلام ). وأدى ذلك إلى تجاذب ينطوي على حالة من الاستقطاب والتحشيد والتحريض والتكهنات وإثارة التنازع بين أبناء ومواطني البلد الواحد. ويتم ذلك في وقت عصيب للغاية نحن أحوج ما نكون فيه إلى تعظيم التماسك الاجتماعي والبحث عن القواسم المشتركة وليس الفوارق المشتركة، وتعزيز مقومات وحدتنا الوطنية في مواجهة اخطار جسيمة تتهددنا جميعاً ولن تستثني أحداً منا.
مصدر الدهشة والاستغراب هذا الذي يخالط ذهنية سائر العقلاء ومدعي الحكمة، أن هذا التجاذب غير المحمود يأتي في وقت ترشح فيه تسريبات عن أفكار وخطط قد تؤدي إلى تصفية، وليس حل، القضية الفلسطينية في زمن عربي صعب عنوانه الضعف والهوان، وزمن أردني صعب كذلك عنوانه حالة استعصاء اقتصادي وسياسي تفرز أوضاعاً اجتماعية صعبة ومعقدة للغاية جراء الفقر والبطالة والغلاء، وجراء عدم تلمس المواطن لوجود تغيير يذكر على حياته المعيشية أو المالية أو السياسية.
ليس أقلها ما نشاهده من العنف المجتمعي والجامعي، وما يثار باستمرار عن مدى احترام هيبة الدولة وقدرتها على تنفيذ الخطط والبرامج الكفيلة بإخراج البلد من هذا الواقع. واختلت أسس ومفاهيم عديدة في الإدارة العامة والتعليم بشقيه، وعادت الظروف المالية المختلة والصعبة إلى سابق عهدها، ليس بسبب الوضع المالي العالمي وحسب، ولكن لاسباب تتعلق بسوء الادارة . وتَرَاَجَع مفهوم الدولة، لصالح انتماءات وهويات فرعية صغيرة تعتمد على صلة الدم أكثر ما ترتبط بالمفهوم العام للانتماء للوطن. وأدى ذلك الاستعصاء إلى تغيير سلبي على المجتمع والفرد، وهو يؤدي إلى تشرذم وتشظي لمجتمعنا الذي يجب أن يبقى مثالاً وقدوة تحتذى في مجتمعنا العربي الأوسع.
ومصدر الدهشة والاستغراب كذلك، هو التساؤل المشروع عن حقيقة أن هذا التجاذب الخطير لا يمكن فهمه بغير أنه يؤدي إلى نقل الخلاف والتنازع إلى الداخل الأردني حول أفكار وتسريبات يُفترض أن الاردنيين جميعاً، ومن كل المشارب والاطياف، مجمعون سراً وعلناً على رفضها والوقوف في مواجهتها، خاصة أن الجميع يشعر بأن فيها (فرصة) للأعداء لتصفية القضية الفلسطينية (وليس حلها)، والالتفاف على الحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني في وطنه، وتهديداً للاردن ولأمنه وسلامته وهويته الوطنية الراسخة، في ظل الحديث المتكرر عما يسمى بالوطن البديل ومن تطلعات عدوانية لا وجود لها الا في الذهنية الاسرائيلية.
وعلى خلاف ما يجري من تجاذب ضار يمارسه بعضنا هذا الأوان، فأنا أعتقد جازماً أن الواجب وطنياً وقومياً وإنسانياً وحتى أخلاقياً، يتطلب منا تفويت الفرصة على العدو المشترك لزرع الفتنة والفرقة والطائفية والتعصب، إزاء أمر خطير لا خلاف بيننا أبداً على رفضه جملة وتفصيلاً. فإذا لم نتمكن نحن المواطنين الشرفاء الواعين والأحزاب والمجتمع المدني والوطنيين الأحرار من الوقوف صفاً واحداً متماسكاً إزاء هذا الخطر ونحن متفقون على رفضه، فإننا بذلك نكون قد فرّطنا بأمننا واستقلالنا وفرطنا بمستقبل أبنائنا. يجب على كل هذه المجاميع الرسمية والأهلية والمدنية وكل نخب الاردن أن تتفهم جيداً أن المروّج لهذه الأفكار هي مصادر معادية خبيثة همها النخر في عظم المجتمع الاردني وتهيئة الفرص والأرضية لإحداث الشرخ وشق الصف ثم الاقتتال بين الأهل وأبناء الوطن. فهم يريدون أن يلحقوا الوطن الأردني بدول السوار الملتهب حولنا لتكتمل حلقة العنف والدمار والانقسام في الأمة العربية.
لذا فإنها أيام تاريخية ومصيرية في حياة الوطن الأردني والقضية الفلسطينية. فدعونا لا نجعل النوازع والعصبيات أو الاحباط او الخلاف يقف في طريق تصدينا لهدا المد القادم علينا. وعلى أصحاب القرار في مختلف مراتبه الدعوة والعمل معاً على وقف هذا التجاذب او الانقسام والتشرذم الدائر بين بعض الأفراد والأطراف والقوى. وإلا، فلن يكون بمقدورنا إن نحن استسلمنا او ضعفنا أمامها، أن نواجهها بما تستحق من إصرار على حتمية أن تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، هناك على الأرض الفلسطينية، وأن يتجسد حق العودة للاجئيين باعتباره حقا لا مساومة ولا تهاون ولا تفريط فيه. وأن يدرك العالم كله أن الاردن ليس وطناً بديلاً لأحد، ولن يكون. وأن هويتنا الوطنية الأردنية ليست أمراً قابلاً للنقض أو الانتقاص. وأن وحدتنا الوطنية على قاعدة التشارك في الهدف والمصير، حالة صلبة مستقرة لا مجال للمساس بها من جانب أي كان. كلنا متفقون على ذلك، إذن على ماذا نحن مختلفون؟
إن من الضرورة بمكان، أن تجلس القوى السياسية الأردنية كافة، لتتحاور وتتبادل الرأي والمشورة بكل وضوح وموضوعية حول ما يتهدد وطننا من أخطار تؤدي إلى التشرذم وتهديد السلم الاهلي، وصولاً إلى تجلية موقف واضح محدد منها، وبصورة تغلق كل الأبواب والنوافذ أمام كل أسباب ومحاولات الفرقة والتشرذم وإثارة نوازع الفتن. وتلك مهمة غاية في الأهمية ونبل الهدف، لا أن تترك ساحات وفضاءات الوطن نهباً للاشاعات والتسريبات والاجتهادات المبينة على الهواجس أو نقص في المعلومات وتشويهها، أو تلك المتولدة عند البعض بغير وعي للمفاصل التاريخية في حياة الأردن وفلسطين وفي امتزاج الدم، أو حتى تلك التي تتجاهل أنْ لا تناقض أبداً بين الهوية الأردنية الوطنية هنا على الأرض الأردنية، والهوية الفلسطينية هناك على الأرض الفلسطينية. وأن التاريخ النضالي للشعبين متداخل ومتماسك.
إنها دعوة صادقة هدفها التمسك باستقلال الأردن والمحافظة على هويته وإبقائه حراً أبياً عصياً على الاختراق والمخططات الظالمة كما هي دعوة هدفها أن تعود فلسطين شقيقة الأردن حرة أبية محررة.