منظورات اصلاحيه
شكّل مفهوم الإصلاح عصب الدولة الحديثة، وتمحورت حوله كثير من النظريات السياسية والدستورية التي إعتبرت أن الدولة لا بد من نظام يحميها بقوّة القانون، ومن عقد إجتماعي بين الحاكم والمحكوم يضفي الشرعية على نظام الحكم القائم، في إطار سعي المجتمعات الإنسانية للتطوّر والتقدّم. لن نستطيع أن نتصوّر أن مشروع التحديث الماليزي ذي الطابع الإقتصادي الذي قاده مهاتير محمد، أو مشروع النهضة الإصلاحي ذي الطابع العلمي الذي تبنّاه محمد علي باشا كان يمكن أن ينجحا، مع أخذ الفارق بين نتيجتي هاتين التجربتين، لو أن الحكم لم تسندها الشرعية التي مصدرها الشعب، مصدر كل السلطات. هذا شرط مهم، غير أنه لا يكفي لأية عملية إصلاحية اذا لم يرافقه مشروع واضح ومحدد المعالم.. يبدأ الإصلاح والتحديث من المجتمع إلى الدولة، ومن الدولة بمؤسساتها وأجهزتها إلى المجتمع بأفراده وجماعاته وتنظيماته، كان قد أشار إلى هذا مفكرو عصر النهضة الأوائل ممن طرحوا رؤى نظرية كثير منها لا يزال صالحاً حتى الآن، ومنهم الإمام محمد عبده والكواكبي ورشيد رضا وغيرهم، وحتى يكون مشروع الإصلاح والتحديث. لكن المشكلة التي تواجه عملية الإصلاح والتحديث، ان هناك تيارين متعارضين في طرح آليات الإصلاح والتحديث، تيار تغريبي ليبرالي يحاول أن ينتزع من ثقافتنا روحها، ومن حضارتنا خصوصيتها، وهو تيار ينظر إلى تجربة الإصلاح الغربية بوصفها نموذجاً حياً للتطوير والتحديث يمكن أن تصلح في مجتمعاتنا وبلداننا، هذا التيار نمى وترعرع في مرحلة ما بعد القطبية الثنائية التي انتهت باندحار الاتحاد السوفيتي سابقاً، وسيطرة الولايات المتحدة على العالم، قبل أن تظهر محاولات لمنافستها من تكتلات اقليمية كالصين وروسيا الاتحادية ومجموعة البريكس، هذا النموذج لن يصلح، لسبب واحد على الأقل، وهو أن الظروف والمعطيات التي ساهمت في بلورة مشروع التحديث والتطوير في الغرب، هو غير الظروف والمعطيات التي تعيشها الدول العربية والاسلامية، هذا غير فارق الثقافات والخصوصيات بينها وبين دول الغرب من جهة أخرى، التي تعتمد على حرية التجارة واقتصاد السوق وقيامها على استغلال ثروات الشعوب في النتيجة. التيار الثاني هو التيار الذي يريد أن يأخذنا إلى أعماق الماضي، يعيدنا إلى الوراء، إلى ما صلح به حال السلف، وهذا التيار الذي يتبنى منهجية إصلاحية سلفية سيفشل طبعاً، لأن المجتمعات في تقدم، وكذلك الظروف والمعطيات التي فرضتها طبيعة المجتمعات العربية الإسلامية في مراحل سابقة انقلبت كلياً الآن، وهذا أهم ما يمكن توجيهه للنظريات الاسلاموية التي تتبنى مثل هكذا منهجية، ومن ضمنها التيارات المؤيدة لأطروحات محمد بن عبد الوهاب وغيره. أخطر ما في هذين التيارين، على الرغم أنهما مختلفان في منطلقاتهما، لكنهما متفقان على هذا المجتمع يجب أن ينسلخ عن ذاته، وآخر يأخذنا إلى المستقبل، دون العبور في الحاضر، وآخر يعيدنا إلى الماضي وتجاهل الحاضر. لذلك فان أهم تجربتين يمكن الاستفادة منهما، وهما حديثتين ومعاصرتين، هي تجربة التحديث التي قادها مهاتير محمد والتي اعتمدت على إصلاح التعليم، وتطوير الصناعات، ودعمها، وتحديث أنماط الإنتاج الزراعي، وتطوير بيئة الاستثمار وضرورة انعكاسها إيجابا على الدولة والمجتمع، والتجربة الأخرى التي سبقت الإشارة إليها، هي التجربة الإصلاحية التي تبناها محمد علي لولا محاولات إجهاضها، والتي اعتمد فيها على التعليم وتطويره، وبناء جيش قوي، واقتصاد مستقل.