زمن "أبو الخيزران"..!
ذات مساء في السبعينيات، أدرتُ قرص التلفزيون الأبيض والأسود، والفقير بالمحطات حينذاك، إلى محطة التلفزيون السوري. صادف أنها كانت تعرض فيلم "المخدوعون" الذي لم تزل مقاطعه متشبثة بذاكرتي بعد كل هذه السنين. فيما بعد، تبين لي أن الفيلم -الذي يبدع فيه الفنان السوري عبدالرحمن آل رشي في دور "أبو الخيزران"- مأخوذ عن رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني "رجال في الشمس". كان ذلك المساء الذي شاهدت فيه الفيلم طفلاً، واحداً من تلك الأوقات التي لا تعود بعدها كما كنت قبلها. أصبحتُ مثل ضيف العرس في قصيدة كوليريدج بعد سماعه قصة البحار القديم: "أكثر حزناً، وحكمة".
كانت تلك بداية تعرفي إلى عالم غسان كنفاني -ولو أنني لم أعرف في تلك الليلة مَن هو صاحب الحكاية. وبعدها بأيام أو سنوات، قرأت أعمال كنفاني في فترات مختلفة، ومرة تلو المرة. ومع كل أقصوصة أو رواية، كان شيء فيّ يتغير. كان أدب غسان كنفاني من ذلك النوع العظيم الذي يستطيع أن يأخذك ويعيد تشكيلك، ولا تخرج منه كما دخلت -أو بسهولة، إنك لن تقرأ "رجال في الشمس" أو "عائد إلى حيفا" أو "أم سعد" أو "موت سرير رقم 12"، وتعود بعدها إلى متابعة حياتك بنفس العادية. سوف تتقوض فيك أشياء وتنبني أخرى. وسوف تصبح شخصيات تلك الحكايات بالغة الصدق والحيوية، جزءاً من معارفك الشخصيين، وستشغل جزءاً من حيزك العاطفي.
منذ تلك الأيام، ما أزال أعاجل كل من يستشيرني فيمَ يقرأ بالسؤال الذي أصبحت أعتبره معطىً طبيعياً وتلقائياً جداً: هل قرأت غسان كنفاني؟ ما أزال أعتقد أن الذي لم يقرأ كنفاني لم يقرأ بعد، وأن هذا الكاتب العبقري هو المثالي للأخذ بيد الناس إلى عالم الأدب والقراءة، بتلك البساطة الساحرة التي لخصوها لنا في عبارة "الأسلوب السهل الممتنع". وليست ثيمات كنفاني ولا مقارباته بسيطة على الإطلاق؛ إنها اشتباكات مع خبرات غير اعتيادية، بعضها جديد كليّة، عاشها شعب متعدد النكبات، لكل فرد منه حكايته المأساوية الخاصة. لكن السرّ يكمن في الطريقة التي يتفاعل بها غسان مع الشخصيات التي يلتقطها من المشهد الفلسطيني الذي يمور من حوله، ويعيد إنتاجها بصدق مذهل في السرد، حتى لا يشك القارئ بأنه يعرف حقاً هذه الشخصيات، وبأنه التقاها في لحظة أو مكان ما.
في مثل هذه الأيام من الشهر الماضي، اعتقدت أنني فوتُّ الكتابة عن مناسبة استشهاد كنفاني في 8 تموز (يوليو) 1972، لأكتشف أنني خلطت في الأشهر. وقد عبرت ذكرى اغتياله في الحقيقة قبل يومين، وأحببت أن أكتبَ فيها عن فكرة تتصل بذلك التعرف الأول إلى أعمال غسان. كنتُ أفكر وأنا أشاهد ما يحصل للقضية الفلسطينية، وللشعوب العربية، بشخصية "أبو الخيزران"، سائق الصهريج الذي يفترض أنه يعبر بالناس "منطقة السراط" الفاصلة بين الجنة والنار، بين الحياة والموت. وقد عثرت دائماً على شبه كبير بينه وبين الذين يقودون هذه الشعوب ويحملونها في خزانات عرباتهم الحديدية إلى وجهة بعيدة عن أن تكون برّ أمان.
كان سائق الصهريج وقائد الرحلة، "أبو الخيزران"، عاجزاً جنسياً. وقرأ بعض النقاد هذا على أنه يرمز إلى عجز القيادات الفلسطينية الشخصي الذي جعلها عاجزة بالضرورة عن الوصول بالآخرين إلى أي مكان. مثل تلك "البهرجة" الشكلية المقفلة على خواء (كان موظفو الحدود يعتقدون أن "أبو الخيزران" زير نساء) كذلك هي بهرجة الشخصيات "المناضلة" التي سلبتها الهزائم إيمانها بذواتها، فأصبحت تقود الفلسطينيين إلى حيث رأينا ونرى الآن في غزة والضفة. وليس الفلسطينيون وحدهم في الحقيقة، فمواطنوهم العرب الآخرون ليسوا أفضل حالاً.
لو كان غسان كنفاني ما يزال حياً، لرأى كم نحن شبيهون الآن بركّاب ذلك الصهريج الذين قضوا شَيّاً تحت شمس صحراء الاغتراب، ولم يبلغوا النهاية السعيدة! لقد أصبحنا جميعاً -عرباً وفلسطينيين- ركاباً هاربين في صهريج ملتهب كبير. وفي قمرات القيادة "آباء خيزرانات" عاجزون، يقودون بنا العربة القاتلة إلى حيث لا نرى. البعض منا دقوا جدران الخزان ولم يجبهم أحد، والبعض ما يزالون ممزقين بين الصمت والصراخ!