"عرض الحال" يغيّرنا!
قبل بضع سنوات، يوم لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي شائعة الاستخدام بعد، تناقلت الصحف خبراً طريفاً عن رجل في عمّان حاول إقناع زوجته بالعدول عن طلب الطلاق، عبر رفعه يافطة على الرصيف العام تعبّر عن اعتذاره لها، واستقدامه فرقة موسيقية تعزف ألحاناً رومانسية، متحللاً بذلك من الحرج في عرض خصوصياته أمام الناس، ومتجاوزاً ما تعوّد عليه المجتمع من حفظ الأسرار الأسرية والتكتم على أخبار العلاقة بين الزوجين.
تذكرت هذه القصة وأنا أطالع على "فيسبوك" كيف بات الناس يعرضون تفاصيل حياتهم اليومية بحرج أقل مما سبق: في أي مطعم يأكلون، بأي شيء يشعرون، بماذا يفكرون؛ إلى جانب التفاصيل التي تتعلق بأسرهم، ونجاحاتهم الشخصية، ثم بأفكارهم ووجهات نظرهم، بخاصة حين تدور في الأخبار أحداث كبرى نتابعها وتشغل تفكيرنا. قد يرى البعض في هذا الواقع الجديد أمراً محموداً، وقد يرى فيه آخرون العكس، لكن المحصلة في الحالين أن "عرض الحال" لم يعد مقتصراً على أقرب المقربين، ومحاطاً بالكتمان، كما كان من قبل.
هذه "الشفافية" المستجدة، يلزم أن نقرأها من زاوية ما تعنيه في شأن شعور الفرد بذاته في مجتمعنا. بكلمات أخرى: علينا أن نقرأها من زاوية تعارضها أو توافقها مع "الثقافة الأبوية" التي تحكم مجتمعاتنا على أساس العادات والتقاليد، وإكراه الفرد على الانتظام في مجاميع تستند على صلات القربى أو الشعور الطائفي.
والحال أن هذه الشفافية تتعارض من دون شك مع تلك الثقافة القديمة تعارضاً جذرياً، وربما تبشر بانعتاق منها في السنوات المقبلة؛ ذلك أنها تعبّر عن فردية ملتزمة، كونها تهتم بالحصول على "إعجاب" الناس أو مناقشة الأفكار معهم، على عكس الفردية التي تعكس استخفافاً بالمجتمع، فتدفع شخصاً إلى تعطيل السير ليشتري غرضاً من باعة الإشارات الضوئية، وتدفع آخر إلى رفع صوت التلفزيون حتى لو علم أنه يزعج جيرانه، وتدفع آخرين إلى سدّ الشارع العام بحجة إقامة حفل زفاف أو تخرّج. تلك فردية تنطوي على شعور بالانعزال عن المجموع، وعن القضايا العامة، وهي ما تزال موجودة بالتزامن مع هذه الفردية الجديدة التي وفّرتها وسائل التواصل الاجتماعي، ويعبّر فيها الفرد عن ذاته، مهتماً بالآخرين من حوله، ومندمجاً معهم لا منعزلاً عنهم.
السؤال الآن: هل ستساعد هذه الفردية الجديدة، الملتزمة تجاه المجتمع نتيجة الشفافية التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي، في تخفيف مظاهر الفردية الأخرى التي تستخف بالناس، ما دام الانفتاح بين الناس بات أكبر، والتعارف صار أسهل، ومراعاة انطباعات الآخرين باتت أكثر أهمية؟!
ربما! لكن ذلك لو حصل، سيمثل فتحاً حضارياً مهماً في مجتمعاتنا، عجزت عن مثله كل المدارس التربوية والسياسية والحزبية والفكرية في العالم العربي، منذ أفكار النهضة الأولى قبل مائتي سنة!
تلك أدوات لم يبتكرها العرب، لكنها هي التي تصنع تاريخهم الجديد، منذ أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي أن يلج العرب في ربيعهم من دون مقدمات. دع عنك مصائر هذا "الربيع" حتى تاريخه، فانعدام المقدمات أدت إلى تواضع النتائج، لكن التاريخ يمور بالمتغيرات، وما تزال أدوات العولمة في مجال التكنولوجيا تغيّر في مجتمعاتنا القيم والمعايير، لأنها تفرض علينا التخلص عنوة من قيود الثقافة الأبوية واشتراطاتها، حين تجبر أفراد المجتمع على الانفتاح على بعضهم بعضاً بصفاتهم الفردية المجرّدة، وتجعل التواصل بينهم متاحاً بلا قيود لحظة بلحظة، فلا يعود ثمة "عادة" علينا الالتزام بها جميعاً، ولا يعود ثمة "إكراه"!
صحيح أن هناك من أخذوا ثقافتهم الأبوية معهم إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لكن المطمئن أن ممارسات هؤلاء تبدو خارج التاريخ تماماً!