قحطاني وافتخر
يعد التغني بالعشيرة أمراً قديم العهد، وهو من التراث العربي، وهو مشروعاً، مالم يفضي لنزاع، فقصيدة الأخنس بن شهاب التغلبي والتي حوت أسماء قبائل ومواضعها كمعد وبكر وتميم وكلب وغسان وبهراء وإياد ولخم(1)، وهي قبائل عدنانية قحطانية ، أظهرت تلك القبائل دون تمييز بينها ولم يرفع الأخنس نسب قحطاني فوق آخرعدناني، ولكن إن تعلق الفخر القبلي بنزعة عرقية فوقية دون غيرها، فهنا تمكن المصيبة، وهي من عادات الجاهلية المنتنة والتي تحدث عنها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي معضلة فكرية واجتماعية ، وسبباً في تأخرنا قديماً وحديثاً، وتضاف لجملة الفتن الموجودة أصلاً ، والتي يتفنن أصحابها في النفخ أسفل جَمْرها.
ونبدأ حكايتنا بدليل على فكرتنا، من عهد معاوية بن أبي سفيان، كمثال تاريخي على نزاع فكري محض، ذو طبيعة جاهلية بصبغة عشائرية، نزاع أطلق عليه اليثربية والمكية، الأنصار والمهاجرين، أو الأنصار وقريش!، فقد توجه وفد من الأنصار إلى معاوية بعد استلامه الخلافة، وكان عنده عمرو بن العاص( وهو ممن كان يعرف بحبه للتفاخر بنسبه وحبه للألقاب رغم أنها من عادات الجاهلية الأولى)، والنعمانَ بن بشير( وهو ممن كان يعرف ببغضه للغلو في التفاخر بالنسب وعدم حبه للألقاب ونبذه لعادات الجاهلية)، فدخل عليهم حاجب معاوية قائلاً: الأنصار بالباب، فتضايق من ذلك عمرو، وقال:ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسب? أرددهم إلى نسبهم،فقال له معاوية: إن علينا في ذلك شناعةً، (ويقصد لنا على ذلك الأمر ملاحظات، وأنه لاداعي أن نتجادل بأمر المفاخرة بالألقاب والأنساب ولنكن واقعيين وعمليين أكثر في تعاملنا مع بعضنا البعض)، ورغم ذلك فقد قال معاوية لحاجبه إرضاءا لعمرو بن العاص: أخرج يا سعد، فنادِ: مَنْ كان بالباب من ولد عمرو بن عامر، فليدخل، ففعل، فدخل من كان هناك منهم ولم يدخل الأنصار، فقال له: أخرج، فناد: من هنا من الأوس والخزرج، فليدخل، ففعل ذلك، ودخل البعض ولم يدخل الأنصار، ثم فوثب النعمانَ بن بشير غاضباً، وأنشأ قائلاً:
يا سعد، لا تعد الدعاء، فما لنا نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيره الإلهَ لقـومـنـا أثقل به نسباً إلى الـكـفـار
إن الذين ثووا ببدر مـنـكـم يوم القلَيِب همُ وقود الـنـار
ثم قام مغضباً، لأنه لايحب المفاخرة بالألقاب كما أسلفنا، فهم الأنصار فقط، نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث معاوية، فرده إليه ، وترضاه وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار، ثم قال له: (إن قوماً أولهم غسان، و آخرهم الأنصار، لكرام)، وكان أهل يثرب يلحقون نسبهم بنسب غسان، ويرجعون نسهم ونسب غسان إلى الأزد، ونسب الأزد إلى اليمن.
لقد كان من المقبول استعمال لفظة المهاجرين مقابل الأنصار، إلا أن الجانبين لم يستعملاها إلا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته استخدموا لفظتي قريش ومعد، كما استعملوا من قبل قريشاً ويمن، وقد افتخرت قريش بمعد، وبالنبوة، فأجابهم الأنصار باًن أم الرسول من بني النجار أخوال النبي ، وبأنهم كانوا أول من آمن به ونصره.
وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تسجيل الأنساب وتبويبها وتثبيتها في ديوان، وذلك عند فرضه العطاء، فبدأ بالترتيب في أصل النسب، ثم ما تفرع عنه، فالعرب عدنان وقحطان، فقدم عدنان على قحطان لأن النبوة فيهم، وعدنان تجمع ربيعة ومضر، فقدم مضر على ربيعة لأن النبوّة فيهم، ومضر تجمع قريشاً وغير قريش، فقدم قريشاً لأن النبوة فيهم، وقريش تجمع بني هاشم وغيرهم، فقدم بني هاشم لأن النبوة فيهم، فيكون بنو هاشم قطب الترتيب، ثم من يليهم من أقرب الأنساب اليهم حتى استوعب قريشاً، ثم من يليهم في النسب حتى استوعب نسل عدنان، وقد كان هذا التسجيل سنة خمس عشرة للهجرة(2).
وقد قال عمر رضي الله عنه: (أيما حي من العرب كانوا في حي من العرب أسلموا معهم فهم معهم، إلا أن يعترضوا، فعليهم البيّنة، كالذي فعله مع بجيلة رهط جرير بن عبد الله بن جابر، وكانوا قد تفرقوا، واغتربوا بسبب حروب وقعت بينهم والتحقوا بقبائل أخرى)(3)، كما أن عوف بن لؤي بن غالب ألحق نسبه بغطفان، والتحق نسب بنيه بني مُرّة بَغَطفان، وفي ذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( لو كنت مستلحقاً حياً من العرب، لاستلحقت بني مُرًة، لما كنا نعرف فيهم من الشرف البين، مع ما كنا نعرف من موقع عوف بن لؤي بتلك البلاد، فإن شئتم أن ترجعوا لنسبكم من قريش، فافعلوا، ولكنكم كرهتم أن تتركوا نسبكم في قومكم، ولكم منهم من الشرف والفضل ما ليس لغيركم)(4).
وقد قام عقيل بن أبي طالب لاحقاً، بوضع مخطط الأنساب وبتسجيل القبائل والعشائر ، وهو من الثقات في معرفة الأنساب، ومعرفة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وان من أشار عليه بتدوين النسب هو الوليد بن هشام بن المغيرة لما رآه من عمل الروم في تسجيل العطاء في بلاد الشام(5).
ولم يقتصر التسجيل المذكور على تسجيل نسب القبائل وحدها، بل شمل ذلك نسب أهل القرى أيضاً، كنسب أهل مكة والمدينة والطائف وغيرها، وذلك لأن سكانها وان كانوا من أصحاب المدن، وقد أقاموا واستقروا في بيوت ثابتة، إلا انهم كانوا كالأعراب من حيث الانتساب إلى الآباء والأجداد، وقد رأينا إن عمر كان قد بدأ بقوم الرسول، وقومه حضر، من أهل مكة، إلا انهم كانوا لا يختلفون عن أهل الوبر في التعلق بالأنساب وفي حفظها، لأن حياتهم الاجتماعية مهما بلغت من التحضر، إلا أن غريزة المحافظة على العصبية النسبية، عادة متأصلة في الفكر العربي، ليتمكنوا من المحافظة على الأمن والسلامة والمال، ولعدم وجود قوة مركزية عامة قوية تضمن تلك الحقوق، ثم إن هذه الأماكن محاطة بالأعراب، وبين أهل مكة من كان شبه حضري، وبيئة مثل هذه لا بد لها من الاحتماء بعصية النسب، وبالتزاوج مع الأعراب، لتكوين رابطة دموية، تؤدي إلى عصبية تضطر الطرفين إلى الدفاع عن مصالحهما المشتركة وتكوين كتلة سياسية واحدة تستجيب للنخوة ولنداء الاستغاثة في ساعة الحاجة والضرورة، ولهذا كان لتزاوج عند العرب أهمية كبيرة في السياسة، ومن هنا نظر سادات القوم والملوك إلى التزوج من بنات سادات القبائل الكبيرة نظرة سياسية في الدرجة الأولى وذلك لشد عضدهم ولتثبيت ملكهم ولضبط القبائل، وقد كان لزواج معاوية من كلب أثر كبير في السياسة الأموية وفي تثبيت ملكه وملك ابنه يزيد وملك مروان الذي انتصر بهم في معركة (مرج راهط)(6) على القيسيين.
وقد كان بعض النسابين قد تخصص بنسب جماعة من العرب، جماعة قومه ومن يرتبط بهم في الغالب، مثل الزبير بن بكّار صاحب كتاب (نسب قريش وأخبارها)، ومثل عقيل بن أبي طالب، وكان قد تخصص بنسب قريش، ومثل أبي الكناس الكندي، وكان أعلم الناس بنسب كندة، ومثل النجار بن أوس العَدْواني، وكان من أحفظ الناس لنسب معد ابن عدنان، ومثل عديّ بن رثاث الإيادي، وكان عالماً بإياد، ومثل خراش بن إسماعيل العِجْلي، وكان عالماً بنسب ربيعة، وعن هؤلاء وأمثالهم أخذ أهل الأنساب علمهم بالأنساب.