عاداتنا وتقاليدنا ... إعادة قراءة
ما يدعوني إلى الحديث اليوم، حول يعض العادات والتقاليد والأعراف، وبعض الممارسات التى نلحظها هذه الايام، هو انه ونتيجة لنمو المجتمع وتطوره في مختلف المجالات، وتوجهه نحو الحداثة والعصرنة، اصبح من اللزوم اعادة ترتيبها وفق مفاهيم وممارسات جديدة، تحافظ على دورها، باعتبارها إرثا اجتماعيا نعتز ونفتخر به.
وقبل الدخول في التفاصيل أشير أيضا إلى أن الأردن كما باقي الدول له عاداته وتقاليده وقيمه الراسخة، التي شكلت جزءا من الموروث الثقافي والإنساني والاجتماعي له، وهي بمثابة منظومة يصعب تجاوزها أو الخروج عليها، باعتبارها تمثل الاطار العام الذي يحكم علاقات الأفراد وتصرفاتهم ببعضهم البعض، وقد كانت عاداتنا وتقاليدنا على الدوام لها الأثر البالغ في تصرفاتنا وهي متوارثة عبر الأجيال، وعملت على تعزيز السلوك الإيجابي وغرس القيم النبيلة وساهمت في بناء المجتمع وكرست السلم الأهلي، فكانت بمثابة الوعاء الجامع الذي عمل على تسهيل حياتنا وحل مشاكلنا الاجتماعية في الكثير من أوجه الحياة.
ومن المعروف أن العادات والتقاليد والأعراف غالباً ما تنشأ لوظيفة اجتماعية، لينتفع بها أفراد المجتمع وتصبح نمطًا اجتماعيًّا يعمل على تقوية العلاقات بينهم، لكن مع الزيادة في النمو السكاني والتحول نحو المجتمع المدني، واختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية، منذ نشأة الدولة مما هي عليه الآن، أصبح من الضرورة إعادة النظر في بعض هذه الاعراف والعادات، لتكون اكثر انسجاما ومراعاة لواقعنا الحالي.
فمثلا «الجلوة» هي في العرف العشائري، وسيلة لمعاقبة الجاني في قضايا محددة كالقتل وغيره، وتُفرض على الأفراد المشتركين في «خمسة الدم»، وقد كان من السهل تطبيقها في السابق، على اعتبار ان العائلة الواحدة كانت أقل عددا، والمجتمع بأغلبه كانت حياته بسيطة يعتمد في الاساس على تربية الماشية وبعض الانماط الزراعية، وينتقل من مكان الى مكان بسهولة ويسر،كما ان القضاء العشائري كان سريع البت في قضايا القتل وغيرها، ومن هنا كان تطبيق «الجلوة» أمرا لا يرتب مشاكل اجتماعية واقتصادية كبيرة كما تطبيقها الان، فكل الذي يترتب وقتها هو قيام الاشخاص المفروضة عليهم «الجلوة» بنقل بيوت الشعر التي يسكنونها وإعادة نصبها في المكان الذي
«يجلون» إليه، أما الآن وبحكم النمو السكاني وتطور المجتمع، وتوجهه نحو الاستقرار والاندماج في الحياة المدنية، واستبدال بيوت الشعر في البيوت الخرسانية، والتحاق الابناء بالمدارس والجامعات وزيادة الاعباء الاقتصادية،أصبحت «الجلوة» ترتب مشاكل اجتماعية عند تطبيقها على «خمسة الدم»، وتتسبب في تشريد عشرات العائلات وأحيانا المئات، من الذين لا ذنب لهم فيفقدون الحياة الآمنة اقتصاديا واجتماعيا، لذلك ومن خلال معرفتي بالكثير من قصص العذاب التي تواجه العديدين جراء تطبيقها، فإن ذلك يدعوني الى الاستمرار في المطالبة بضرورة إعادة النظر في هذا العرف الاجتماعي، للتخفيف من الاثار السلبية الناجمة عنه، وأدعو إلى تطبيق «الجلوة» فقط على الاشخاص المشتركين في دفتر عائلة الشخص المعني، فهل يعقل انه ومن أجل حلّ مشكلة خلقُ مئات المشاكل؟ لذلك لابد من عقد مؤتمر عام، يشارك فيه كافة المعنيين في القضاء العشائري وشيوخ ووجهاء المجتمع ومؤسسات الدولة ذات العلاقة، لبحث موضوع «الجلوة» من جديد، والاتفاق على ميثاق شرف يتم تطبيقه في موضوعها، على ان يكون التطبيق مقتصرا فقط على المشتركين في دفتر العائلة.
ومن المظاهر التى باتت تشوّه عاداتنا وأعرافنا وتقاليدنا أيضا، ظاهرة المبالغة في أفراحنا وأحزاننا ومناسباتنا الاجتماعية المختلفة، فمثلا عندما نذهب بجاهة لطلب عروس ندعو مئات الأشخاص ويستقبل الجاهة المئات، ويحرص والد العريس أو العروس على أن يترأس الجاهة من كل طرف « صاحب دولة أو معالي أو شخصية عامة «، فهل مراسم الخطبة لا تتم إلا إذا ترأس الجاهة أحد هؤلاء؟ هذا مع العلم أن أهل الخاطب والمخطوب يكونا قد اتفقا على كافة التفاصيل قبل موعد الجاهة.
وهنا فإنني أدعو الجميع وخاصة الاشخاص المعنيين بمثل هذه المناسبات أن يعملوا ما استطاعوا لأجل التخفيف من حجم هذه الظاهرة وأن يؤكدوا على ضرورة أن تكون الجاهة مقتصرة على عدد محدد من المدعوين انطلاقاً من الإيمان بإنه قد آن الآوان لوضع حد لمثل هذه الممارسات.
وأشير هنا إلى أن الكثير من رجالات الدولة وأنا واحد منهم، نتعرض يوميا الى ضغوطات كبيرة وإحراجات لحضور مثل هذه الجاهات، إضافة إلى أن مثل هذه المبالغات تعمل على تعزيز الفوارق الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد، في الوقت الذي نحن فيه أحوج لأن نكون أسرة واحدة متراصة متحابة، وفي الوقت الذي يجب أن نعمل جميعا بأن تذهب عشرات الآلاف من الدنانير التي تهدر في هذه المناسبات، الى الجمعيات الخيرية ولتعزيز التكافل الاجتماعي فيما بيننا في ظل انتشار الفقر والبطالة، وفي ظل التحديات الاقتصادية التى تواجه بلدنا، فالأصل أن تعود الجاهات كما كانت في السابق مقتصرة فقط على الاقارب والانسباء وعدد محدود من الاصدقاء، وأضيف هنا بأن ما ينطبق على أفراحنا بات ينطبق على أحزاننا، فلماذا لا يتم في المناسبات الحزينة تقديم القهوة العربية فقط؟.
وعندما نتحدث عن العادات الدخيلة التي غزت مجتمعنا، نتحدث هنا أيضاً عن ظاهرة اقامة الولائم للشخصيات العامة، فأصبحنا نلاحظ في هذه الأيام أنه وعندما يدعوك شخص الى تناول الطعام، تجده «عازم» المئات على هذه الدعوة، ويقدم مئات المناسف التي تذهب غالبيتها الى حاويات القمامة، والأدهى من ذلك أنك تتفاجأ وفي نفس اليوم أو اليوم الثاني، أن صور الحضور منتشرة على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، هل يعقل مثل هذه التصرفات؟ فلماذا لا تقتصر مثل هذه الدعوات على عدد محدود من الاصدقاء؟ إن ظاهرة إقامة الدعوات التى يحضرها المئات يجب أن تنتهي،فاستمرار مثل هذا أمر مرفوض بالمطلق، وهنا أدعو وسائل الإعلام للنهوض بدورها في محاربة مثل هذه الظواهر الغريبة، وعدم الاشارة اليها بالمطلق، فمثل هذه الظواهر اصبحت تهدد تراحمنا الاجتماعي وتحرف سلوكنا القويم الذي عززته في نفوسنا قيمنا وعاداتنا وأخلاقنا وأعرافنا الأصيلة، وهنا قد يسأل البعض ويقول «يا أخي ما انت بتحضر عزايم وبتترأس جاهات ... طيب طبق هالحكي على حالك» وانا أقول لهؤلاء جميعا، نعم أحضر وأشارك لكن تحت الضغط والإلحاح أحيانا كثيرة، لكن هذا الأمر لا يعني أبدا أن نستسلم لمثل هذه الممارسات، لذلك سأبدأ بنفسي بمحاربة هذه الظواهر الدخيلة وأدعو الجميع لمحاربتها.
إن مثل هذه الأمراض التي بدأت تتفشى بمجتمعنا بصورة صارخة، تخلق تميزا اجتماعيا وطبقيا داخل مجتمعنا، كما ان المواطن البسيط غير القادر أصبح هو الضحية لمثل هذه الممارسات، فلماذا أصبح البذخ والإسراف عنوانا لدى البعض.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإنه وفي هذا المقام لابد من الإشارة إلى أن الكثير من رجالات الدولة والمسؤولين يتعرضون للظلم، ففي حال تلبيتهم لهذه المناسبات يُتهمون بأنهم يبحثون عن أدوار لهم، وإذا رفضوا يقال أنهم يتخلون عن أدوارهم وواجباتهم الاجتماعية، فأصبح حال البعض إذا حضرنا «مش عاجبه»، وإذا لم نحضر «مش عاجبه» لكن إيماننا بوطننا لن يثنينا عن تحمل المسؤولية لخدمته.
وبمناسبة الحديث عن الولائم وأطنان «الطعام» التي مصيرها الحاويات عقب كل مناسبة اجتماعية من هذه المناسبات التي أشرت إليها، فإنني أؤكد أنه قد حان الوقت، لاتخاذ قرارات شجاعة على المستوى الوطني، وأرى أن نبدأ بوضع ميثاق شرف توقع عليه مختلف الفعاليات ويكون ملزما للجميع، وينص (على أنه لا يجوز إلا تقديم القهوة العربية فقط) وذلك منعا للهدر وتقليلا للتكلفة.
إننا إذا ما عدنا إلى تاريخ الآباء والأجداد وعاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا، سنجد أن هذه الظواهر والممارسات لم يكن لها وجود ولا أثر في واقعنا الاجتماعي، حيث كان «العرس» مثلاً فرحة ترتسم على الوجوه، وملتقى للتآلف والمودة والتقارب ببساطة متناهية، وبطقوس إنسانية سامية المعاني.
وفي الحديث عن العادات الدخيلة، لا ينتهي المطاف عند كل ما أشرت إليه أعلاه، فهناك عادات وممارسات بدأنا نشهدها وبكل أسف غير التي ذكرت،سببها بالدرجة الأولى الابتعاد عن عاداتنا الأصيلة وأخلاقنا العربية الإسلامية النبيلة، ومن هذه المظاهر والممارسات فقد أصبحت لغة الحوار فيما بيننا في أحيان كثيرة مبنية على الريبة والشك وعدم الثقة، حول أبسط القضايا وأسذج الخلافات، وباتت المناكفات تطغى على أحاديث مجالسنا، وتتحول أحيانا إلى خلافات عشائرية وجهوية وإقليمية بغيضة، كما أن السؤال الأهم هنا منذ متى كان إغلاق الشوارع، والاعتداء على الممتلكات العامة، والاستقواء على الوطن، عنوانا للمرجلة والفروسية؟ ومنذ متى كنا نحمي الخارجين عن القانون والنظام العام؟ أليس من عاداتنا «تشميس» السارق والمجرم ومرتكب جرائم الشرف وغيرها من الجرائم؟.
إن ما نشهده اليوم من ممارسات غريبة، يشكل خطورة اجتماعية وحالة من الحالات المرضية التي أصابتنا في الفترة الأخيرة، لأنها ببساطة خلقت مجتمع المتناقضات في مجتمع يعيش غالبيته بدخل محدود، لذا فإننا أحوج ما نكون اليوم وفي هذه الظروف إلى الوقوف لحظة مع أنفسنا، لقيام كل واحد منا بعمل جردة حساب بسيطة للظواهر الدخيلة التى بدأت تغزونا، للتخلص منها وإعادة الاعتبار لقيمنا وأعرافنا وتقاليدنا العريقة، فالاعتراف بالخطأ فضيلة.
وهنا فإن المسؤولية في محاربة هذه الظواهر هي مسؤولية جماعية،فالمطلوب أن يقوم كل واحد منا بدوره لجهة التخلص منها، وأن المسؤولية الأساسية تقع بالدرجة الأولى على الزعامات العشائرية ومؤسسات المجتمع المدني، والإعلام والجامعات والفعاليات الشبابية والثقافية وغيرهم، لذا علينا جميعا أن نُعلق الجرس ونبدأ بالعمل سوية لإعادة الاعتبار لكل ممارساتنا الفضلى.