مَـسيـحيّـو العــِراقِ.. لِماذا فِي عَمّان ؟!
يتصارع الحديث ويزدحم على امتداد العالم في هذا الأوان عن مصير المسيحيين في العراق، بعد سيطرة تنظيم داعش على أجزاء من سوريا والعراق، وطرد هؤلاء من أرضهم، وتشريدهم تحت عنوان الإسلام أو الجزية، الأمر الذي أوجد ثغرةً واسعةً لخصوم الإسلام، للولوج منها للإساءة إليه، واتهامه بأنه دين لا يعترف بالآخر وحقوقه.
وحقيقة أنّ ما حدث لمسيحيي العراق، يشكّل صدمة قوية لكل مسلم، يفهم الإسلام جيداً على حقيقته الإنسانية الراقية، واعترافه بشراكة الآخرين، خصوصاً مسيحيي الشرق، إذ يعتبرهم مكوّناً أساسياً من مكونات أمتنا وحضارتها، ولهم فضل في مسيرتها التاريخية، بل بالكثير من فتوحاتها، خصوصاً في الشّام والعراق ومصر، وبنظرة متفحّصة لطبيعة معيشة المسيحيين في الشرق، يُدرك تماماً أن الدولة الإسلامية على مختلف مراحلها، تعاملت معهم كمواطنين لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم، كباقي أبناء الأمة من المسلمين، حتى في موضوع الجزية، فقد تساهلت الدولة الإسلامية في هذا الموضوع مع المسيحيين، حتى باتت في كثير من العصور رمزيّة، لا أكثر ولا أقل، وقد يقول صاحب رأي لماذا تفرض الجزية على المسيحيين وهم مواطنون في الدولة؟ والردّ هنا جلي، فمقابل هذه الجزية التي فرضت على المسيحيين فرضت الزكاة على المسلمين، حتى تستطيع الدولة بناء المنظومة الاجتماعية الخادمة لجميع أبنائها، وقد استفاد فقراء المسيحيين من الجزية والزكاة، كما فقراء المسلمين تماماً في كل عصور الدولة الإسلامية، فقد كان يأخذ هؤلاء عطاءهم من الدولة، ويستفيدون من خدماتها المختلفة دون تفريق ودون النظر لدياناتهم، ولعلّ قصة عمر بن الخطاب مع المسنّ اليهودي الذي وجده يسأل الناس حاجته في المدينة، وأطلق قولته المشهورة التي لا تزال تُدوي في التاريخ، شاهدةً على عدالة الإسلام ومساواة دولته بين مواطنيها، دون تفريق بين الأديان، ما داموا يقومون بواجباتهم، «أخذنا منك الجزية وأنت شاب وأهملناك وأنت شيخ مُسن»، ثم فرض له ولمن مثله من أبناء الدولة جميعاً عطاءً أو راتباً حتى وفاته، وكم كانت الدولة الإسلامية تتولى عائلات المسيحيين المواطنين فيها، بعد وفاة أولياء أمورها؟ والتاريخ زاخر بهذه الأحداث.
ولا نريد أن نتحدث فوق هذا، ونُعيد سرد الأحداث التاريخية، التي تُشير إلى تميّز العلاقة بين المسلمين والمسيحيين عبر العصور، بدءاً من الراهب بحيره ومروراً بالنجاشي، وكل الأحداث التي دلّت على عمق الترابط بين الطرفين، وكان الأردن عبر تاريخه العميق، وطبيعة رسالته المستندة إلى الشرعية التاريخية والدينية لقيادته الهاشمية، شكّل دوماً العلامة الفارقة والمميّزة بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة، بل وربما في العالم كلّه، فلم يشهد الأردن عبر الفترات الطويلة والممتدة من تاريخه، إلا علاقة شراكة حقيقية ومميزة وحسنة بين الطرفين، وتساوى المسلم مع شريكه المسيحي في الوطن في الحقوق والواجبات، واعتبر الأردنيُّ المسيحيَّ -وهو كذلك- أساساً رئيساً في بناء المجتمع الأردني، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وحرصت القيادة السياسية في البلاد على ترسيخ هذه المفاهيم، امتداداً لجذورها التاريخية.
وكما شكّل الأردن ملاذاً آمناً لكلّ العرب، على اختلاف دياناتهم وانتماءاتهم، هرباً من الظلم والاستبداد والحروب، يُشكّل الأردن اليوم الملاذ الآمن لمسيحيي العراق الهاربين من الظلم، والفهم المغلوط للإسلام، من بعض الذين يرفعون رايته اليوم جهلاً واستكباراً وغُلواً، فمنذ متى كان الإسلام يُجيز ذبح الآمنين في بيوتهم وتشريدهم منها أو هدمها على رؤوسهم؟ ومنذ متى كان الإسلام يحرم حقّ الحياة للناس وحقّ الاعتقاد؟
«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ».
الإسلام بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لشرحه للعالم على حقيقته العظيمة، فهو يتلخّص في كلمات معدودة، الإيمان والعدل والمساواة والكرامة والحرية، فهل يَعي هؤلاء الغلاة هذه المعاني العظيمة، التي أرادها الله عزّ وجلّ من رسالة الإسلام على يدي نبي الرحمة والسّلام، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان قلبه يرقّ للحيوان والشجر، مثلما يرقّ للإنسان.... وأين الدُّعاة الذين تناسوا دورهم في بناء العقيدة في نفوس الناس، وحمايتهم من التطرف والفكر المشوه؟ هؤلاء الذين حملتهم الدعوة ولم يحملوها، وتحوّلوا إلى أحزاب وفرق.. وغرقوا في السياسة مُهمِلين دورهم في البناء والتربية.
من أجل ذلك كلّه، مسيحيو العراق اليوم في عمان، وهي صاحبة الرسالة التي تشرح الإسلام على أصوله العظيمة في المحبّة والسّلام، وتُشير لهم أن الإسلام لا غُلو فيه ولا ظلم، ولا ذبح ولا تشريد، ولا إكراه في الدين والحياة.. بل أمن وأمان واطمئنان، كما هو النموذج الأردني...