من الإفراط إلى التفريط
يبقى الصفر صفراً سواء أكان بحجم قارة أم مجرد نقطة سقطت سهوا من قلم حبر، وحين كان الخطاب السائد هو الدعوة بإلحاح الى الوحدة العربية، انقسمت النخبة الى فريقين، فريق يرى أن استكمال كل قطر عربي لعناصر بنائه سيجعل من الوحدة مداميك صلبة، وفريق يرى في ذلك وصفة سياسية مضادة للوحدة ولتعميق القطرية، وما أن حدث الانفصال بين دمشق والقاهرة حتى وجَّه دعاة استكمال القطر لمقوماته مناسبة لتكريس نظرتهم، فالوحدة لا تتم بشكل فوقي أو رئاسي بمعزل عن القاعدة لكن ما حدث -وهو نادرا ما يحدث في التاريخ- هو أن الوحدة لم تتم كما أن استكمال عناصر الدولة القطرية ذات السيادة لم يتم ايضا، وبدت المعادلة أخيرا كما أن أي مشروع وحدوي هو حاصل جمع أصفار.
وما يجهله معظم المتنطعين من خبراء وجنرالات البطالة العسكرية العربية هو أن التزامن الذي حدث بين انهيار الاتحاد السوفييتي وانحسار المد الاشتراكي وبين خريف الفكر القومي خلّف فراغا ايديولوجيا سرعان ما تحول الى مجال حيوي لاستثماره، خاصة بعد ان قدمت العولمة وثقافتها المفبركة والمؤمركة معا نمطا مضادا للأمية، وهذا بالضبط ما بشر به «روزفلت» في خطابه الشهير الذي قال فيه ان قدر بلاده هو أمركة العالم..
وحين يندهش البعض مما انتهى اليه العالم العربي من صراعات طائفية وانصراف شبه كامل عن القواسم القومية المشتركة فذلك لأنهم لا يبدأون من أول السطر وجملتهم السياسية خبر بلا مُبتدأ.
وهنا أزعم -بلا تردد أو مواربة- أن ما يجري الآن فيما سمَّاه الشاعر بلاد العرب أوطاني من الشام... هو حصيلة منطقية لمقدمات مسكوت عنها، وما كان لهذه الخريطة -بخطوط طولها وعرضها- أمد تتحول فيه الى عجينة رخوة تتحرك فيها السكاكين بسلاسة وحرية لولا أن ما حدث في العالم العربي وقبل ثلاثة عقود على الأقل راوح بين الإفراط والتفريط.
والإفراط في الأنانية السياسية وما يصاحبها من نرجسية عمياء والتفريط بأهم المشتركات القومية بدءا من القضية الأمِّ أو المحور -كما كانت تسمَّى- وهي قضية فلسطين وليس انتهاء بالتفريط بالحد الأدنى من الأمن القومي!
ومن يكتبون الآن -بأثر رجعي- عن «برنارد لويس» و»هنري كيسنجر» و»الاكسندر هيج» وحتى برنار ليفي فإنهم لا قيمة لكل ما يكتبون لأنه لم يحنْ بعد الأوان!