العدالة لضحايا صبرا وشاتيلا والشجاعية
في مثل هذه الأيام قبل 32 عاماً، نفذت العصابات اللبنانية المتحالفة مع العدو الصهيوني مجزرتي صبرا وشاتيلاً. وفي ثلاثة أيام بدأت في 16 أيلول (سبتمبر) 1982، اجتاحت ميليشيات الكتائب مخيمي اللاجئين الفلسطينيين، وقتلت نحو 3000 طفل وشيخ وامرأة. وما تزال أرواح هؤلاء الضحايا قلقة تنتظر العدالة في عالَم مجدب من العدالة، مثل أرواح ضحايا كفر قاسم وعشرات آلاف الفلسطينيين الذي يقضون ذبحاً بلا جريرة سوى كونهم فلسطينيين.
وما تزال دماء آخر قافلة من الشهداء -وليست الأخيرة كما هو واضح- طرية في غزة المعذبة، حيث نفذ الكيان الإجرامي في فلسطين مجزرته الأخيرة في غزة، وقتل بدم بارد نحو 2171 فلسطينياً، جلهم من المدنيين أيضاً.
المفزع في مصارع الفلسطينيين بهذه الأعداد والكيفيات، في سياق مذبحة جماعية مستمرة، هو التجاهل العالمي والعربي المستمر لها، حتى أدخلوها في باب العادية -وكأنها شأن طبيعي من حركة العالم ويومياته. وإذا قارنّا ردة الفعل على مذابح "داعش" في حق الأزيديين، والتي قوبلت بقصف جوي أميركي وإرسال مستشارين عسكريين ومعدات وما شابه، برد الفعل على ذبح الفلسطينيين الذي يقابل بتبرير سلوك المجرمين بوصفه "دفاعاً عن النفس"، فسنرى الدرك الأخلاقي الذي هبط إليه ضمير العالم في معاملة الفلسطينيين.
لقد أصبح تجويع الفلسطينيين وحصارهم وتشريدهم في مخيم اليرموك، وأحوالهم المريعة في مخيمات لبنان، وتدمير بيوتهم وقتل أولادهم في الشجاعية، ونفي الملايين منهم لأجيال.. كلها أموراً مقبولة لا تكاد تثير احتجاجاً ولا يمكن أن تستدعي عملاً عالمياً ولا عربياً.
في بيروت 1982، قال الفلسطينيون الذين تكالب عليهم الموت "يا وحدنا". وغنت فرقة "العاشقين" بلسان حالهم: "ثمانين يوم ما سمعناش يا بيروت، غير الهمة الإذاعية/ بالصوت كانوا معانا يا بيروت، والصورة ذابت في المية". وبدا رد الفعل العربي الرسمي متآمراً تماماً على الشعب الفلسطيني، وكأن الفلسطينيين سبب مصائب الأمة العربية وحبذا التخلص منهم.
ثم في مذابح غزة المتعاقبة، مد عرب كثيرون أيديهم إلى العدو -سراً وعلانية- بلا خجل، لتصفية مقاومة الفلسطينيين وتسليمهم عزلاً للذبح. ولم نسمع عن تَحالف محلي ولا عالمي من أجل كف يد جهة إجرامية مصنفة عالمياً على أنها غير شرعية وكيان احتلال، بينما تمارس جرائم الحرب والإبادة والفصل العنصري المتواصلة في حق المدنيين. وكان الصوت المعلن الفاقد للأخلاق والضمير يتهم الفلسطينيين بأنهم يجلبون الكوارث على أنفسهم بالمقاومة، وكأن استسلام الفلسطيني وبيعه تاريخه وحياته وإنسانيته هما شروطه لاستحقاق الحياة!
لكن الأكثر عاراً في قصة المجازر في حق الفلسطينيين، هو أن الجهة الوحيدة المخولة بمحاولة جلب بعض العدالة للضحايا لا تفعل أي شيء لجلب الجزارين إلى الجهات التي ربما تتيح شيئاً من هذه العدالة. وكنت قد قرأت قبل سنين شيئاً للمسؤول الأعلى في المحكمة الجنائية الدولية، يحث فيه السلطة الفلسطينية على عرض قضية الضحايا الفلسطينيين ومساءلة جزاريهم في المحكمة، ويبين لهم كيف يستفيدون. كان كأنه يرجوهم ويقبّل أيديهم ليفعلوا شيئاً لأنفسهم. ثم رأينا ما فعلته "السلطة" بتقرير غولدستون عن جرائم حرب العدو في غزة نهاية العام 2008 وبداية العام 2009، فغيبته وعطلت مسيرته.
ومؤخراً، كتبت المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في صحيفة "الغارديان" تقول: إن الفلسطينيين هم الذين يجب أن يتقدموا بقضيتهم إلى المحكمة ويصادقوا على قانونها، حتى يمكن لها أن تفعل لهم شيئاً بخصوص جرائم العدو الفظيعة الأخيرة في عملية "الجرف الصامد". لكن أحداً لا يسمع!
بأي منطق، يجب أن تفعل السلطة الفلسطينية التي تزعم تمثيل الفلسطينيين الأحياء والقتلى كل شيء يزعج العدو ويحرجه. وإذا كانت الولايات المتحدة والكيان يهددان "السلطة" أو يغريانها لطي ملفات جرائم الحرب ضد الفلسطينيين وحجبها عن المحكمة، فإن ذلك يعني شيئين أكيدين: أن الإجراء سيلحق ضرراً بليغاً بالعدو؛ وأنه سيجلب فوائد للفلسطينيين لا يريدها لهم العدو.
وإذا كان طي محمود عباس هذا الملف ورقة مساومة يحصل منها لنا على شيء، فأين هو؟ أين دولة "الدجاج المقلي" الموعودة؟ أين التوقف عن الاستيطان؟ أين الكف عن قتل الفلسطينيين وسجنهم وتشريدهم كل لحظة؟ ما الذي يفعله عرابو "السلطة" بتعطيل خيار المحكمة، سوى استجلاب المزيد من المجازر ضد شعبهم، وخيانة العدالة المقدسة، وتعذيب الضحايا؟ إنهم يشاركون.