حواسيب أهل الكهف
يروي محمد فائق وزير الإعلام في عهد الرئيس عبدالناصر، أنه بعد أن قضى في السجن عشر سنوات بتهمة وجهت إليه في عهد السادات، خرج إلى الشارع الذي اشتاق إلى التجول فيه حيث فضاء الحرية، وكان يركب سيارة ابنه الصغيرة التي تشبه العلبة وحين توقف عند إشارة مرور بعد أن أضاء اللون الأحمر سمع من حوله ومن خلفه يصرخون به كي يواصل السير، فلا أحد -كما يقول- أقام وزناً للإشارة الحمراء، وكانت تلك أول صدمة عاشها بعد السجن وتساءل: هل كانت عشرة أعوام كافية لأن تحذف الفارق بين الأحمر والأصفر والأخضر وتعمَّ الفوضى على هذا النحو غير المسبوق؟
فماذا لو سُجِنَ الأستاذ فائق ثلاثين عاماً؟ وما الذي كان سيراه في الشوارع و وجوه المارة وما الذي كان سيسمعه من مفردات؟!
نحن لن نُسجن عشرة أعوام أو عشرين، لكننا كنا مصابين بالعمى، بحيث بدت الوقائع التي تعصف بحياتنا كما لو أنها مرَّت تحت طاقية الإخفاء، فالجميع الآن يتبادلون الشكوى من الماء إلى الماء ومن الدم إلى الدم وكأنهم مثل «أهل الكهف» الذين ما إن خرجوا إلى النور حتى أصيبت أعينهم بالزَّوغان، فكل شيء تبدل بدءاً من العملة حتى اللغة ومنظومة القيم.
وحين نسمع الناس يهزون أكتافهم باستهجان لما يرون ويسمعون، نجزم بأنهم كانوا في سباتٍ كهفي أو في سجن غامض وبسعة البلاد كالذي وصفه «كافكا» في أحد كوابيسه.
وأحياناً يفكر أحدنا بأنه كان منوَّماً مغناطيسياً أو مُسَرْنِماً ومعناها السير وهو نائم، فهذه حالة تصيب بعض الناس حيث ينهضون من فراشهم ويمشون بلا وعي. وإذا لم يُقيِّض الله لهم أحداً يمسك بأيديهم يسقطون عن النافذة أو الشرفة أو سطح البيت.
في إحدى قصائد الشاعر اليوناني «كافافي» يتكرر سؤال واحد على امتداد القصيدة وهو: كيف استطاع هؤلاء أن يبنوا حولي سوراً بهذا الارتفاع وأنا نائم؟ وكيف لم أسمع ضربات المعاول وضجيج البنائين؟
فالرجل نام طويلاً واستيقظ ليجد نفسه داخل جدران تطاول السماء.
ما حدث لنا في العالم العربي الذي كان ذات يوم وطناً عربياً وليس عالماً هو شيء كهذا، فالأسوار ارتفعت ونحن مستغرقون في نوم كهفي، والتطرف بلغ ذروته ونحن نثرثر عن الاعتدال، والفقر أصبح مدقعاً ونحن نتحدث عن فائض المال. والسيادة الوطنية قضمت كسجادة تسللت إليها الفئران من كل الجهات.
ما رواه الأستاذ فائق عن إشارة المرور التي لا ينظر إليها أحد هو ما حدث لأمَّةٍ بأسرها فالأحمر أخضر والأصفر أبيض والربيع خريف.