غازإسرائيل بين البراغماتية والأخلاقية
ضاعت قضية "الغاز الإسرائيلي" في زحمة الأخبار الضاغطة التي تخلق انطباعاً بأننا نعيش في كابوس غير واقعي: تنظيم "داعش" و"دخول الأردن في حرب" ضده، "ذهب هرقلة"، "رفع أسعار الكهرباء"، "قانون ضريبة الدخل الجديد"، وهكذا.
لكنه خطر لي أمس، بين كل ذلك، أن أسأل زميلاً في الدائرة الاقتصادية سؤالاً معلقاً في حنجرتي عن صفقة الغاز بين الأردن وكيان الاحتلال. سألته: "هل سيستخدم هذا الغاز في الأسطوانات المنزلية؟" أجاب بأنه سيستخدم فقط في محطات توليد الكهرباء. كانت في ذهني فكرة التطبيع الشعبي الإجباري مع الكيان.
تصورت أننا سنكون مجبرين على شراء غاز الكيان، وبالتالي تمويل مشروعه، باستهلاك غازه في الطبخ والتدفئة.
وليس الغاز المنزلي سلعة اختيارية مثل الجزر الذي يشترونه من العدو ويبيعونه لنا في محل الخضرة، من دون أن نعرف مصدره في كثير من الأحيان. لكنني فكرت أيضاً: إذا كنت تستهلك الكهرباء التي ما فيها اختيار، وتدفع ثمنها ومنه سيدفعون للكيان، فإنك ستموله وستطبع معه اقتصادياً، أبيت أم رضيت.
بالإضافة إلى غرابة فكرة شراء أي شيء من كيان احتلالي معروف دولياً بلاشرعيته، والذي تقاطع منتجاته الكثير من الشركات والكيانات العالمية بسبب ذلك، فإن الأغرب والأخطر هو رهن قطاع استراتيجي حاسم في البلد لعدو -حرفياً- مهما وصفوه بغير ذلك.
ماذا سيحدث إذا توترت العلاقات مع هذا "الشريك الاقتصادي"، وما أكثر ما تتوتر؟ ماذا لو تعرضت الأنابيب للتخريب المستمر في سياق عمل المقاومة الفلسطينية المشروع؟ ماذا لو غضب "الشريك" من شيء فعلناه ولم يعجبه، وقرر أن يغلق الصنبور؟
أتصوّر أن أي أحد لن يغامر بالاعتماد هكذا على سلعة كهذه من جار كهذا، حتى لو كانت هبة لله وبلا نقود، من باب عدم الارتهان له وصيانة القرار والأمن الوطنيين.
ولنلاحظ كيف تضرب أوروبا كلها رأسها بالحائط مع الأزمة الأوكرانية، بسبب اعتماديتها على الغاز الروسي الذي سيتركها انقطاعه تتجمد من البرد.
وماذا عن الأخلاق؟ بالإضافة إلى ضلال فكرة الشراء أو التعامل مع كيان غير أخلاقي وعنصري، يمارس احتلالاً غير شرعي وإبادة جماعية، يقول مراقبون عالميون إن "إسرائيل" تسرق الغاز الذي ستبيعه للأردن من أهل غزة المنكوبين أصلاً.
هكذا قال تقرير نشره موقع "غلوبال ريسيرتش" مؤخراً، والذي بدأته كاتبته، جولي ليفيسك، كما يلي: "بينما يعاني الغزيون من الانقطاعات اليومية في الطاقة، توقع إسرائيل اتفاقية مهمة لبيع الغاز للأردن، غاز يقول الباحثون إنه مسروق من الفلسطينيين".
وتقتبس الكاتبة من "إسرائيل بزنس نيوز"، أن "إسرائيل صادرت حقول الغاز الفلسطينية بحكم الأمر الواقع، في تجاهل للقانون الدولي" في أعقاب قصفها وغزوها للقطاع الفلسطيني في عملية "الرصاص المصبوب".
ثم، بعد اقتباس التقرير عدة باحثين يؤكدون على وجود الغاز الفلسطيني ضمن منطقة حقل الغاز الذي سيبيع منه الكيان، نقل عن صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" قول الخبراء إن الصفقة "تجعل إسرائيل مزود الطاقة الرئيس للمملكة".
ثم نقل عن منفذ أخبار "غلوب" في دولة الكيان قوله إن وزارة الخارجية الأميركية "ساعدت" كلا البلدين في توقيع الاتفاقية التي تعطي "إسرائيل" القدرة على "استخدام موقفها لتحقيق أهداف استراتيجية" (لا يمكن أن تكون هذه الأهداف إلا ضدنا).
وينقل التقرير عن موقع "ميدل إيست مونتيور" أن "الأردن وافق الشهر الماضي على توصية "تدعو إلى تزويد الأردن بالغاز الطبيعي المستخرج من مياه غزة الفلسطينية".
في البعد البراغماتي للمسألة، يتحدث مسؤولون عن انقطاع الخيارات، وعن المنفعة في خفض فاتورة الطاقة في الأردن.
مفهوم أن دول الثروة النفطية العربية لا تساعد الأردن في حل مشكلة طاقته، ولا تساعدنا الانقطاعات المستمرة في الغاز المصري أيضاً.
ولكن؛ هل انقطعنا فعلاً إلى حد تسليم مفصل أمني استراتيجي لبلدنا للعدو (أذكّر بما ورد أعلاه عن خدمة الصفقة غايات "إسرائيلية" استراتيجية)؟ هل نغض الطرف عن الأخلاق حد شراء غاز مسروق من الغزيين، ودفع النقود لكيان مارق حسب القانون الدولي يستخدم ماله في اضطهاد الفلسطينيين؟ أين الجدية في تنفيذ مشاريع الطاقة المحلية التي نسمع عنها ولا نراها؟ وكيف تدبرنا أمرنا بلا غاز العدو، ثم "حبكت" الآن؟