حكاية حياة قصيرة
المكتبة المركزية للجامعة، برلين 1994 ــ راقبتها يوميا. تأتى فى الرابعة عصرا إلى القسم الخاص بدارسى الدكتوراه، محملة بكتابين أساسيين (عرفت فيما بعد أنهما شروح للدستور الألمانى أو القانون الأساسى كما يسمى حرفيا هناك) والكثير من المقالات والأوراق المصورة.
تبدأ فى القراءة والكتابة فورا، وترفع عينيها بين الحين والآخر لتنظر إلى ما يدور حولها وقد تتبادل أحاديث خاطفة مع بعض الدارسين أو تذهب إلى صالة الطعام بالمكتبة لتناول خضراوات وفاكهة طازجة كانت تحضرها معها. لم تكن تغادر المكتبة، إلا حين تتعين المغادرة فى المساء قبل العاشرة بدقائق معدودة.
بعد أسابيع، كسرت هى روتين رقابتى اليومية الصامتة لها. فى مقهى قريب من المكتبة، قالت إنها تعد أطروحة للدكتوراة فى كلية الحقوق والعلوم القانونية عن المطاعن الدستورية الواردة على تقييد حق الأجانب فى اللجوء إلى ألمانيا. قالت إن حكومة المستشار هيلموت كول (1982 ــ 1998) عدلت قوانين اللجوء الألمانية على نحو جردها من الهوية الليبرالية، وتراه هى متناقضا مع نصوص دستورية تلزم ألمانيا بالانتصار لكرامة الإنسان ولا تقصر مسئولية حكومتها الأخلاقية والسياسية بشأن صون الحقوق والحريات على المتمتعين بالجنسية الألمانية فقط.
•••
قالت إنها برلينية، لأم هى صحفية يسارية معروفة ولأب يعمل طبيب عظام فى مستشفى جامعى. قالت إن ارتداءها للون الأسود يوميا هو إشارة رمزية لرفض الظلم والقمع الذى تتعرض له الكثير من الشعوب بعيدا عن الغرب الغنى والديمقراطى، وللاحتجاج على هجمة اليمين المحافظ فى ألمانيا ودول أوروبية أخرى على الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية وصعود اليمين العنصرى وضغطه المستمر على الأجانب المقيمين وكذلك على المواطنين ذوى الأصول الأجنبية. قالت إن مسار حياتها تغير فى 1993 بعد أن قتل نازيون جدد خمسة فتيات من أصول تركية فى مدينة بغرب ألمانيا (سولينجن)، وأنها تركت مكتب المحاماة المتخصص فى القضايا الجنائية الذى كانت تعمل به بعد حصولها على شهادتها الجامعية الأولى فى العلوم القانونية وتطوعت فى منظمة حقوقية معنية بشئون الأجانب واللاجئين وعادت إلى الجامعة لإعداد أطروحة الدكتوراه.
قالت إنها لا تعرف الكثير عن الأوضاع المعاصرة فى مصر، ولم تقرأ عن «الشرق الأدنى» إلا بعض المقالات الصحفية عن الصراع المستمر بين إسرائيل والفلسطينيين ومقالات أخرى عن الحرب العراقية ــ الإيرانية وإخراج الولايات المتحدة الأمريكية لقوات صدام حسين من الكويت. قالت إن زملاء لنا فى الجامعة من أقسام الحقوق والفلسفة والاجتماع والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا يلتقون أسبوعيا للقراءة المشتركة لكتب قديمة وحديثة ولمناقشة قضايا ألمانيا وأوروبا والعالم، وأنها تقترح على المشاركة فى لقاءات المجموعة.
•••
أماكن مختلفة، بين 1994 و2014 – أنهت أطروحتها للدكتوراة سريعا، وانضمت إلى حزب الخضر الألمانى (يصنف باعتباره بين اليسار ويسار الوسط، وله اهتمام أصيل بقضايا الحقوق والحريات وكذلك بشئون البيئة والتغيرات المناخية) بجانب عملها فى منظمات حقوقية عدة. فى النصف الثانى من التسعينيات، نشرت لها كبريات الصحف الألمانية مقالات رأى عن وضعية الأجانب واللاجئين، والتفاوتات بين الولايات الغربية والولايات الشرقية، ووطأة العنصرية التى تتعرض لها الفئات الضعيفة بين الأجانب من أطفال ونساء وعجائز، وحتمية قبول المجتمع الألمانى لهويته «الجديدة» كمجتمع متعدد الأعراق والديانات ومتنوع ثقافيا وضرورة إعادة النظر فى قوانين التجنس «الرجعية» والقيود «غير الدستورية» المفروضة على ممارسة حق اللجوء.
تواصلت اللقاءات الدورية لمجموعة الدارسين السابقين الذين حصل بعضهم على مواقع أكاديمية فى الجامعة بينما اتجه البعض الآخر إلى الصحافة والإعلام والمجتمع المدنى والقطاع الخاص، وظلت هى الأكثر رونقا بملابسها السوداء التى لم تغيرها والأوضح نجاحا بمجالات عملها المتنوعة وبشهرتها النسبية لدى الرأى العام. وحين استضافتها فى 1997 سابينا كريستيانسن ــ آنذاك مقدمة البرامج الحوارية الأكثر شهرة فى التليفزيون الألمانى ــ لمناقشة تعديل تعديل قوانين اللجوء واشتبكت هى بحصافة بالغة ومعلومات وفيرة مع سياسيين منتمين لأحزاب اليمين (المسيحى الديمقراطى والمسيحى الاجتماعي) وفندت عنصريتهم الكامنة وراء أقنعة وطنية زائفة، احتفلنا بها وأرغمناها على توقيع ورقة تقر بها بدفع غرامة مالية إن هى تغيبت عن حضور لقاءات المجموعة دون إبداء أسباب مقنعة ــ كانت فى سبيلها لدور سياسى ومجتمعى واسع وشهرة متنامية.
فى 1998، طلبت أن نلتقى والتقينا فى مكتبى بجامعة برلين. قالت إن طاقتها على العمل فى السياسة وبين الأحزاب انتهت، وأن الشعور بالخواء والعجز إزاء ازدواجية المعايير وغلبة المصالح الضيقة والشخصية كاد أن يذهب بحبها للحياة. قالت إن اليسار ممثلا فى الحزب الاشتراكى الديمقراطى وحزبها (حزب الخضر) يريد بعد سنوات المعارضة الطويلة العودة إلى مقاعد الحكم، وأن الضحية ستكون الأجندة التقدمية للحقوق وللحريات ومن بينها تعديل تعديل قوانين اللجوء وتوفير ضمانات أفضل للأجانب المقيمين وذويهم. قالت إن ثقتها فى موضوعية وتعددية النقاش العام الذى تديره الأحزاب ووسائل الإعلام تنهار، وهى ترى كيف تحجب حقائق ومعلومات عن الرأى العام ويزيف الوعى بالربط الكاذب بين الترويج لاستمرار تقييد حق اللجوء وبين تحسين حظوظ الألمان فى الحصول على فرص للعمل (فى سنوات التسعينيات الأخيرة، تجاوزت معدلات البطالة فى ألمانيا حاجز 10 بالمائة)، وذكرتنى بكتابات للفيلسوف الألمانى يورجن هابرماس كنا قد تناولناها بالدراسة فى مجموعتنا عن تجريد النقاش العام من الطبيعة الديمقراطية فى الغرب وعن التعددية الظاهرية التى لا تتجاوز خطوط الأقوياء والأغنياء الحمراء. قالت إنها عزمت على مغادرة ألمانيا والذهاب إلى أمريكا اللاتينية أو إلى أفريقيا مع منظمات حقوقية معنية بحقوق الأطفال والنساء، وأنها ستتقدم باستقالتها من حزب الخضر وستبقى فقط على كتابة مقال رأى شهرى للصحافة ومحاضرات علنية فى الجامعات حين تعود إلى ألمانيا فى العطلات السنوية.
•••
كان اصطدامى الأول بقدرة الإنسان على الإنهاء الكامل لوجوده فى مكان ميلاده ونشأته وموطن اكتسابه للوعى الأخلاقى والقيمى والمجتمعى والسياسى، وعلى الانتقال إلى مكان آخر بكفاءة عالية ومشهودة. عدنا للتواصل الحقيقى فى بدايات الألفية الجديدة، كانت هى فى حركة بدت متصلة بين البرازيل والأرجنتين وأوروجواى وكنت أرتب للعودة إلى مصر. قالت إنها استعادت ذاتها فى أمريكا اللاتينية، وإنها تعمل كمستشارة للعديد من المنظمات النسوية والمبادرات المدافعة عن حقوق وحريات السكان الأصليين والفقراء وضحايا الديكتاتورية الطويلة. قالت إن البرازيل ستصنع تجربة تنموية وديمقراطية مبهرة إن لم يتدخل الغرب لإحباطها، وأن على آرائى الليبرالية أن تتحمل توظيفها لبعض نظريات المؤامرة التى يعشق اللاتينيون تردديها عن الولايات المتحدة الأمريكية وماضى تدخلاتها وتمويلها للانقلابات العسكرية مازال حاضرا فى الأذهان. قالت إنها سعيدة بالابتعاد عن أحزاب اليمين واليسار فى ألمانيا وأوروبا وعن حساباتهم الضيقة التى أضاعت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتواصل ظلم الضعفاء والأجانب وتجريد النقاش العام من الطبيعة الديمقراطية والتعددية، وأن أسفارها ستأخذها قريبا إلى بعض الدول الإفريقية والآسيوية وربما إلى البلقان للعمل مع منظمات نسوية وحقوقية. أما عالمك أنت، هكذا قالت، فلا تحول ديمقراطيا قادم به ولا نهاية لثلاثية الاستبداد والتطرف والإرهاب.
•••
تابعت أخبار عملها وكتاباتها الصحفية بين 2002 و2014، وتحركت صداقتنا معها ومعى بين أماكن مختلفة وترسخت الآراء والقناعات من واقع الخبرات المعاشة أو تغيرت. ظلت هى ضميرا إنسانيا يتشح بالسواد، يرفض الظلم والقهر والقمع ويبحث عن مساحات لتغييره بعيدة عن السياسة التى هددتها بفقدان الذات. ظلت هى كائنا شفافا يراكم عقله الحقائق والمعلومات والمعارف، ويسعد حين تتحرك الشعوب للمطالبة بحقوقها وحرياتها، ويجتهد للتضامن والمساندة. ظلت هى المرأة الهادئة التى تستمع قبل أن تتكلم ولا يرتفع صوتها عند الاختلاف، المرأة التى اقتنعت بقدرة المبادئ والقيم الإنسانية على تجاوز اختلافات الثقافات والفواصل اللغوية والخلفيات المكانية، المرأة التى لم أر دموعها أو أستمع إليها باكية إلا حين هددتها السياسة بفقدان الذات وحين تداولت وسائل الإعلام العالمية صور أطفال سوريا قتلى جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية.
ظلت هى صديقتى، التى رحلت منذ أيام عن عالمنا دون مقدمات وتركتنى هى أيضا لآلام فراق تتجدد.