"الرسالة المعكوسة" وراء الصورة
على الأغلب، لن تفلح محاولات والديّ الرهينة الأميركي المسلم عبدالرحمن (بيتر سابقاً) كاسيغ في انتزاع عنق ابنهم من "ذبّاح" تنظيم "داعش"، تماما كما فشلت رسائل سابقة من ذوي الرهائن الغربيين الذين بدأ التنظيم بذبحهم الواحد تلو الآخر.
ربما حالة كاسيغ المختلفة عن بقية الرهائن تتمثّل في أنّه أسلم قبل قرابة عام، وفق رواية والديه لصحيفة "نيويورك تايمز". لكنّ الأمر لا يعني شيئاً لدى "داعش" الذي يرسل المفخّخات والانتحاريين لحصد رؤوس قيادات في الفصائل الإسلامية، من بينها الشقيق التوأم له "جبهة النصرة".
أحد أبرز الأسئلة التي تتردد في الأوساط السياسية والإعلامية اليوم حول مشهد الذبح الذي يقدّمه تنظيم "داعش" لهؤلاء الرهائن الغربيين، يتمثل في مغزى الرسالة الثاوية وراء الصورة. فإذا كانت عمليات الذبح السابقة فشلت في إرغام التحالف الدولي على وقف الهجمات ضد التنظيم، بل دفعت الرأي العام الأميركي والغربي إلى تأييد الضربات بعدما كان هناك مزاج شعبي عام ضد التدخل أو خوض حروب جديدة، فلماذا يصرّ "داعش" على الاستمرار في ذبح الرهائن وتصوير ذلك على الملأ، والإمعان في تقديم هذه الصورة الدموية الوحشية عن نفسه؟!
الجواب عن السؤال السابق هو أنّ الرسالة التي يريد التنظيم إرسالها إلى الغرب والرأي العام العربي والإسلامي اليوم، تتمثّل في أنّه ليس حريصاً على تقديم صورة جميلة عن نفسه، بأنّه وديع وطيّب ومحب للعالم؛ ولا هو حريص على أن يستدر العواطف، بل على العكس من ذلك؛ هو يحرص على تقديم رسالة بأنّه قوي وحازم، يفعل ما يقول، وسيؤذي الغرب والولايات المتحدة الأميركية إذا استمرت الهجمات، ولا توجد لديه مشكلة في قتل باقي الرهائن لتعزيز هذه الرسالة الجديدة.
ما قام به "داعش" هو أنّه قلب الرسالة؛ فبدلاً من التأكيد على الجانب الطيب الإنساني في الحضارة العربية المسلمة، فإنه أراد إظهار الشق المتوحش المرعب، وهو -للأسف- الجانب الذي بات يستهوي نسبة كبيرة من الشباب العربي والمسلم المحبط، ليس فقط في سورية والعراق، بل وحتى في مصر ومجتمعات أخرى، تحت ضغط الأزمة القاسية والشعور بعدم وجود مخرج من المأساة، وسيادة حالة من الإحباط واليأس وتلاشي الأفق السياسي.
بالطبع، بالنسبة للمراقبين والباحثين والسياسيين الذين يختلفون مع الأيديولوجيا المتوحّشة للتنظيم، فإن هذه الرسالة مشوّهة وخاطئة، وتعتمد على أسس تتناقض مع فلسفة الإسلام الأخلاقية والروحية، والمقاصد والغايات التي تحكم المسلمين بأن النفس البشرية معصومة. لكن العوامل الموضوعية والبنيوية الحقيقية التي تحكم مواقف التنظيم، وتثوي وراء الرسالة التي يقدّمها، هي في جوهرها نابعة من الأزمة الطاحنة الراهنة التي تعيشها المجتمعات العربية والمسلمة، أكثر من أي اعتبار أيديولوجي أو فقهي، وربما يأتي الأخير بوصفه عاملاً ثانوياً.
الشعوب والمجتمعات العربية اليوم تقع بين نماذج فاشلة؛ وحش "داعش" (فرانكشتاين) الناجم عن الأنظمة السلطوية العربية، والأزمة الطائفية المتصاعدة في المنطقة، والأنظمة التي تريد الركوب على موجة مكافحة الإرهاب الذي خلقته سياساتها وممارساتها، والحركات المعتدلة التي تعجز عن اجتراح خطاب يواجه النماذج السابقة؛ وفي الوقت نفسه يقدم بدائل حضارية وأخلاقية، تدرك حجم الأزمة الخطيرة الراهنة وعمقها، وحجم الضرر الذي أحدثته في صلب الثقافة والقيم والسلم الأهلي، ومدى الخطر الذي تشكّله على مستقبل الأجيال المقبلة.