لحظات لا تنسى في عمّان والكرك
كنت قد بحثت طويلاً عن وجهة مناسبة لقضاء عطلتي التي تمتد لأربعة أيام فقط، وبحثت كذلك الأمر في عروض الطيران والسياحة. أول ما تبادر لذهني حين قرأت عروض طيران ناس، التي وجدتها الأكثر اقتصادية من بين خيارات عدة، الرحلة إلى الأردن.
وصلت إلى مطار الملكة علياء الدولي في الثامنة من مساء الثلاثاء الماضي. كانت رحلتي التي حطّت من بين رحلات إلى عمّان ضجّت بها قاعة المطار لكثرتها. كل شيء كان ميسراً ليس على صعيد ركوب الطائرة فحسب؛ إذ كانت الخدمات المقدمة على متنها عالية إذا ما قورنت بالسعر الذي دفعته، ومن ثم توفر عدد كبير من سيارات الأجرة التابعة للمطار، والتي ركبت إحداها لتقلّني نحو فندق الرويال، الذي اخترته للإقامة بعد أن نصحتني به قريبتي التي حضرت للأردن للعلاج العام الماضي.
طرقات عمّان مزدحمة، لكنك لا تنفكّ تنظر من نافذة سيارة الأجرة لملامح الحياة الموجودة فيها. في وقت لا تتواجد فيه الأبراج بكثرة كما مدن خليجية أولها دبي، لكنك ترصد طابعاً معمارياً لافتاً للبيوت سيمته الرئيسية الحجر الأبيض الكبير.
حين وصلت الرويال كنت قد أُنهكت تعباً. تناولت عشائي في غرفتي وخلدت لنوم عميق استعداداً لبرنامجي الحافل في اليوم التالي. صباحاً توجهت لمنطقة وسط البلد، التي كان سائق سيارة الأجرة قد نصحني بزيارتها. هناك مشيت في الأزقة الحميمة التي تفصل الأسواق الشعبية عن بعضها البعض. سوق الحميدية وسوق البخارية وغيرها من أسواق كانت تطالعني تباعاً وأنا أمضي. البضائع كانت بأثمان زهيدة للغاية. حتى وجبة غدائي التي تناولتها في مطعم جفرا كانت بثمن معقول مقارنة بجودتها. أجواء المطعم، الذي يصنفونه في عمّان كأشهر مقهى ثقافي وشعبي، غارقة في القدم، وجميلة للغاية، لا سيما الشرفة المطلة على الطريق.
أدركت كم أن أسعار منطقة وسط البلد معقولة، عندما زرت شارع الوكالات في منطقة الصويفية في المساء. المقاهي على جنبات الشارع كانت رائعة، وكذلك المحال، لكنها لا تقدم روح عمّان الحقيقية كما وجدتها في وسط البلد. البضائع في شارع الوكالات هي ذاتها التي تشتريها من الكويت أو المنامة أو كوالالمبور أو لندن أو أي مدينة أخرى. وسط البلد يقدم لك نكهة عمّانية خالصة.
في النهار الثاني من مكوثي في عمّان توجهت لمنطقة جبل القلعة التي رأيت فيها أسواراً شاهقة وأعمدة ضخمة. مشيت في جنبات المكان كثيراً، وأخبرني أناس يتواجدون هناك للتمشي بأن فعاليات موسيقية وفنية عدة تقام في مهرجانات على مدار العام. كانت رحلة شاقة مضيت فيها عقب ذلك نحو مدينة جرش، التي تشبه في هيكليتها العامة ثيمة منطقة القلعة: أعمدة ومسارح حجرية وأرضيات غارقة في القدم. تمشيت هناك وتناولت عشائي وعدت للفندق استعداداً للرحلة التي ستسمر ليومين آخرين لكن هذه المرة نحو الجنوب.
في صبيحة اليوم الثالث أفقت، واستقليت حافلة ضخمة تتوجه لمحافظة الكرك. الطريق كانت نزولاً، وقد أخبروني أننا نمضي في طريق البحر الميت الذي يعدّ النقطة الأخفض على وجه الأرض. وصلنا الكرك وتحديدا قلعة الكرك التي أدهشتني ببنيانها الضخم، وبحجارتها ذات الحجم الكبير والتي تتسلل منها الحشائش الخضراء. فهمت من الموجودين أن هذه المدينة قريبة من السعودية، لذا شعرت بطابع بدوي خالص لدى كثير من أهلها الذين يبشّون في وجه الضيف ويرحبون بالزائر حتى وإن كنت تمشي في طريق عام.
حين اقترب العصر، وصلنا لمنطقة ساحرة اسمها وادي بني حماد. يقع الوادي بين مرتفعات صخرية شاهقة للغاية، وفي ممر دقيق تمضي فيه لتجد شلالات ماء صغيرة تنساب مشكّلة ما يشبه السيل. النباتات التي تنبت بكثافة على أطراف المرتفعات الصخرية وخرير المياه هناك وملامح الحياة الطبيعية التي تستدلّ عليها من أصوات الطيور بأنواعها، كلها ترسم مشهداً لم أتوقع أن أراه في الأردن.
بتنا ليلتها في خيم صغيرة تم نصبها خصيصاً لنا، بعد أن تناولنا وجبة صحراوية بامتياز وهي الزرب، الذي يدفن فيه اللحم في أفران عميقة تحت الأرض. أمضينا الليلة نتأمل في النجوم التي كانت جلية للغاية؛ إذ إن تلك المنطقة هادئة بلا عمران ولا ضجيج يكدر صفوك هناك. استيقظنا صباحاً لنكمل جولتنا في وادي بني حمّاد ولنكتشف المزيد من الطرق الوعرة بين المرتفعات الصخرية، والساحرة الجمال في الوقت ذاته.
أوصلتني الحافلة لفندق الرويال في الخامسة مساء، لأستقل سيارة أجرة كنت قد استعنت بالفندق لتوفيرها، ومن ثم مضيت نحو مطار الملكة علياء مجدداً، وفي ذاكرتي وقلبي مشاهد لا يمكن لي نسيانها في هذه الإجازة القصيرة والمفعمة بالكثير.