هل حقا يسقط واجب الأغنياء تجاه الفقراء بالزكاة وحدها
في أحدث التقارير الأممية عن سوء التغذية بحسب قناة الجزيرة فإن عدد الجوعى المزمنين ثمانمئة مليون و خمسة ملايين إنسان؛ما يوازي 9/1 من سكان العالم . و إنه مما لا شك فيه أن للعالم الإسلامي نصيب كبير من هذا العدد و من هذه النسبة.فإذا أضفنا إلى الجوعى الفقراء و الغارمين و ذوي العوز فسنقع على كارثة اجتماعية متحققة ، و على محنة أخلاقية جاثمة ؟!.
ما يحضر السؤال القديم الملح : هل تقوم مجتمعاتنا بحق الفقير ؟ و هل نكون كثرة كاثرة من أهل الأموال عن إخراج الزكاة و مواساة الفقير بما يعفي من يخرجها من المسؤوليتين الشرعية أمام الله ، و الأخلاقية أمام ضميره والمجتمع ؟ و أين أهل الأموال من قول الله:(يسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) ؟
وهل فهم الصحابي الجليل أبي ذر لقوله تعالى : "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ماكنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " هو فهم مغلوط حقا ؟ أم هو الذي يتوافق مع المعنى الشرعي المحكم الذي يقرّر أن القيام بحق الضعفاء في المجتمع فرض كفاية يأثم الناس كلهم بتركه إلا أن يقوم بعضهم به ؟.
عن المعرور بن سويد قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم ) متفق عليه .
و إن قصة أبي ذر مع هذا الرأي نسوقها ها هنا من سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ملخصة : - عن يزيد بن الشخير ، عن الأحنف ، قال : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم ، حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتجلجل . قال : فوضع القوم رؤوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا . فأدبر ، فتبعته حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم . قال : إن هؤلاء لا يعقلون شيئا ؛ إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني فقال : يا أبا ذر ، فأجبته ، فقال : ترى أحدا ؟ فنظرت ما علي من الشمس - وأنا أظنه يبعثني في حاجة - فقلت : أراه ، فقال : ما يسرني أن لي مثله ذهبا ، أنفقه كله ، إلا ثلاثة دنانير ثم هؤلاء يجمعون الدنيا ، لا يعقلون شيئا . فقلت : ما لك ولإخوانك من قريش ، لا تعتريهم ولا تصيب منهم ؟ قال : لا وربك ، ما أسألهم دنيا ، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله .
عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : قدم أبو ذر من الشام ، فدخل المسجد ، وأنا جالس ، فسلم علينا ، وأتى سارية ، فصلى ركعتين ، تجوز فيهما ثم قرأ : ألهاكم التكاثر واجتمع الناس عليه ، فقالوا : حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البر صدقته من جمع دينارا أو تبرا أو فضة لا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله كوى به قلت يا أبا ذر انظر ما تخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه الأموال قد فشت قال من أنت ابن أخي فانتسبت له فقال قد عرفت نسبك الأكبر ما تقرأ " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " ( التوبة 35 ).
قال الذهبي : موسى - و هو أحد الرواة - ضُعف ؛ رواه عنه الثقات . - ابن لهيعة حدثنا أبو قبيل سمعت مالك بن عبد الله الزيادي يحدث عن أبي ذر أنه جاء يستأذن على عثمان فأذن له وبيده عصا فقال عثمان يا كعب إن عبد الرحمن توفي وترك مالا فما ترى قال إن كان فضل فيه حق الله فلا بأس عليه فرفع أبو ذر عصاه وضرب كعبا وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أحب أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ستة أواق أنشدك الله يا عثمان أسمعته قال مرارا قال نعم . قلت- الذهبي- هذا دال على فضل إنفاقة وكراهية جمعه لا يدل على تحريم .
عن عبد الله بن الصامت قال دخلت مع أبي ذر على عثمان فلما دخل حسر عن رأسه وقال والله ما أنا منهم يا أمير المؤمنين يريد الخوارج قال ابن شوذب سيماهم الحلق قال له عثمان صدقت يا أبا ذر إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة قال لا حاجة لي في ذلك ائذن لي إلى الربذة قال نعم ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة تغدو عليك وتروح قال لا حاجة لي في ذلك يكفي أبا ذر صريمته - أي شياهه القليلة - فلما خرج قال : دونكم معاشر قريش دنياكم فاعذموها ودعونا وربنا . قال : ودخل عليه وهو يقسم وعبد الرحمن بن عوف بين يديه وعنده كعب فأقبل عثمان على كعب فقال يا أبا إسحاق ما تقول فيمن جمع هذا المال فكان يتصدق منه ويصل الرحم قال كعب إني لأرجو له فغضب ورفع عليه العصا وقال وما تدري يا ابن اليهودية ليودن صاحب هذا المال لو كان عقارب في الدنيا تلسع السويداء من قبله.
السري بن يحيى حدثنا غزوان أبو حاتم قال بينا أبو ذر عند باب عثمان ليؤذن له إذ مر به رجل من قريش فقال يا أبا ذر ما يجلسك ها هنا قال يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا فدخل الرجل فقال يا أمير المؤمنين ما بال أبي ذر على الباب فأذن له فجاء حتى جلس ناحية وميراث عبد الرحمن يقسم فقال عثمان لكعب أرأيت المال إذا أدى زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة قال لا فقام أبو ذر فضربه بعصا بين أذنيه ثم قال يا ابن اليهودية تزعم أن ليس عليه حق في ماله إذا آتى زكاته والله يقول " ويؤثرون على أنفسهم " ويقول " ويطعمون الطعام على حبه " ؛ فجعل يذكر نحو هذا من القرآن فقال عثمان للقرشي إنما نكره أن نأذن لأبي ذر من أجل ما ترى .
وروي عن ابن عباس قال كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية - أي مخافة أن يرجع أعرابيّا - فكان يحب الوحدة فدخل على عثمان وعنده كعب الحديث. وفيه فشج كعبا فاستوهبه عثمان فوهبه له وقال يا أبا ذر اتق الله واكفف يدك ولسانك. - موسى بن عبيدة أخبرنا ابن نفيع عن ابن عباس قال استأذن أبو ذر على عثمان فتغافلوا عنه ساعة فقلت يا أمير المؤمنين هذا أبو ذر بالباب قال ائذن له إن شئت أن تؤذينا وتبرح بنا فأذنت له فجلس على سرير مرمول فرجف به السرير وكان عظيما طويلا فقال عثمان أما إنك الزاعم أنك خير من أبي بكر وعمر قال ما قلت قال إني أنزع عليك بالبينة قال والله ما أدري ما بينتك وما تأتي به وقد علمت ما قلت قال فكيف إذا قلت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أحبكم إلي وأقربكم مني الذي يلحق بي على العهد الذي عاهدته عليه وكلكم قد أصاب من الدنيا وأنا على ما عاهدته عليه وعلى الله تمام النعمة وسأله عن أشياء فأخبره بالذي يعلمه فأمره أن يرتحل إلى الشام فيلحق بمعاوية فكان يحدث بالشام فاستهوى قلوب الرجال فكان معاوية ينكر بعض شأن رعيته وكان يقول لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم ولا تبر ولا فضة إلا شيء ينفقه في سبيل الله أو بعده لغريم وإن معاوية بعث إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله فقال اذهب إلى أبي ذر فقل أنقذ جسدي من عذاب معاوية فإني أخطأت - أي في إعطاء المال إليك إنما هو لغيرك - قال يا بني قل له يقول لك أبو ذر والله ما أصبح عندنا منه دينار ولكن انظرنا ثلاثا حتى نجمع لك دنانيرك فلما رأى معاوية أن قوله صدّق فعله كتب إلى عثمان أما بعد فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله فابعث إلى أبي ذر فإنه قد وغل صدور الناس فكتب إليه عثمان اقدم علي فقدم.
ابن لهيعة عن عبيد الله بن المغيرة عن يعلى بن شداد قال قال شداد بن أوس كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه فيسلم عليهم ثم إن رسول الله يرخص فيه بعد فلم يسمعه أبو ذر فتعلق أبو ذر بالأمر الشديد. انتهى بعض روايات القصة مع بعض تعليقات من داخلها و أخرى من خارجها .
لكن ما رأي المعاصرين بعد أن أثبت التاريخ أن مذهب الجماهير ما حل مشكلة الفقر ؟ يقول الباحث حسن فرحان المالكي- بتصرف : يقول الله تعالى في آية الكنز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) [التوبة/34، 35 ).
هذه اختلف فيها السلف على رأيين: رأي رأسه أبو ذر الغفاري ،ورأي رأسه معاوية بم أبي سفيان. قال البخاري في صحيحه «..أخبرنا حصين عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له ما أنزلك منزلك هذا؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ). قال معاوية نزلت في أهل الكتاب فقلت نزلت فينا وفيهم.. الحديث».
وقال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن: «الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَخَالَفَهُ أَبُو ذَرٍّ وَغَيْرُهُ، فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ..» واضح من كلام ابن العربي أن متزعم تخصيص الآية في أهل الكتاب هو معاوية وليس النبي صلى الله عليه و سلم ولا المهاجرون ولا الأنصار.
ومعنى الكنز : أنك تحبس المال ولا تنفقه، بغض النظر كان هذا الإنفاق على شكل صدقات أو كفاية حاجات الأقربين أو على شكل مشاريع، إلا أن وجود أحد هذه الأشكال أو غيرها يخرج المال من معنى الكنز المحرم وما فيه من الوعيد الشديد.
لكن لأن حكام المسلمين تجار من القرن الأول إلى اليوم في الجملة، ومعظم فقهاء المسلمين مستفيدون من السلطات أو متأثرون بهم من القرن الأول إلى اليوم أيضاً، فقد هجروا مذهب أبي ذر وذموا مذهبه مع أنه منطوق الآية ، ولجؤوا لمذهب من خصص الآية بلا حجة مقنعة، لأن معظم السلاطين والفقهاء كانوا تجاراً، ففضلوا كنز الأموال وترحيل الآيات المانعة من ذلك إلى أهل الكتاب، وهذا العذر قد يصلح في الدنيا للمجاملة، ولكن ماذا سيكون جوابهم يوم القيامة ؟! ولا سيما أن زيادة (الواو) ليس عبثاً، أعني في قوله (والذين يكنزون) فهؤلاء معطوفون على فئة الأحبار والرهبان، ولو كان المراد أهل الكتاب لما كان هناك داعٍ لوجود الواو ، ولذلك حاولت السلطة أن تحذف (الواو) بإيعاز من الذين كانوا يصرون على ترحيل الآية لقوم آخرين، أما نحن فلنكنز كما نشاء!
ولولا عناية الله أولاً، وتهديد الصحابي الكبير سيد القراء أبي بن كعب الأنصاري بالثورة المسلحة لربما وقع هذا التحريف (حذف الواو)، ففي المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز- (ج 3 / ص 247) قال: وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمر أنه قال: لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله ( والذين يكنزون) فأبى ذلك أبي بن كعب وقال لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقها. اهـ - أي : انتهى النقل من المحرر .
إذن فالسلطة تعي اللغة وضرر الواو على مصالحها، بل كان رأي معاوية قد تسلل لبعض القراء ، فهذا طلحة بن مصرف اليامي- وهو تابعي أموي الهوى- كانت قراءته (الذين يكنزون الذهب والفضة) بحذف الواو ، ولكن الله سلم وحفظ كتابه فلم تنتشر قراءته.
وهذا الأمر بالتحريف في الآية استبعد أن يكون من عثمان وإنما من بعض كتبته، كمروان بن الحكم، فتمت نسبته لعثمان، وربما حصل هذا بتنسيق مروان مع معاوية خصم أبي ذر، وكان تواصل معاوية مع حاشية عثمان قوياً، ولذلك قال المفسر مباشرة «وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية!، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال: بل هي فينا، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة.. الحديث).
فهذه الآية إذن و واوها، قد أحدثا هذه القصة الكبيرة التي حدثت لأبي ذر، ونحن هنا سنتجنب ما جرى بينهم، وننظر لدين الله وكتابه فقط، ومع أن أبا ذر أولى بالاتباع من معاوية إلا أن منهج معاوية غلب، واستحسنت السلطات عبر التاريخ هذا الرأي.
حسناً فتعالوا إذن لنتنزل ونفترض أن رأي أبي ذر ورأي معاوية متساويان في القوة، فهل من مرجح؟ نعم ؛ من القرآن : يرجح رأي أبي ذر آيات أخرى كثيرة جداً، نكتفي بآيتين، الأولى : آية التطويق: قال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) [آل عمران/180]. فالآية أقرب لمنهج أبي ذر، وأبعد عن تخصيص معاوية، لأنه لا ذكر هنا لأهل الكتاب. ومنها : آية العفو: وهي، قال تعالى: (... وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) [البقرة/219]. والعفو هو ما فضل عن الحاجة عند أكثر أهل التفسير، بل وأهل اللغة، ففي أساس البلاغة - (ج 1 / ص 316): ويقال أعطيته عفواً من غير مسألة «ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو» أي فضل المال ما فضل من قوتك وقوت عيالك. اه - أي النقل عن أساس البلاغة , ولأصحاب الرأي الآخر مناصرون أيضاً لكن حججهم فيها ضعف وتكلف.
والخلاصة:أن النص القرآني وممارسة الرسول وأوامره ووعيده وذمة أبي ذر.. كل هذا نضعه في ذمة كل طالب علم وكل صاحب قرار . والتفصيل في تجنب عملية الكنز يكون بإنفاق ما فوق الحاجة ولو في المشاريع ، وأهل الاقتصاد يعرفون أثر تفعيل الأموال على كنزها في مسألة التنمية وقوة الاقتصاد . انتهى كلام المالكي .
و في حديث خاص مع الأستاذ الدكتور أسامة عدنان الغُنْميين ؛ رئيس قسم الفقه و أصوله في جامعة اليرموك الأردنية حول رأيه في مذهب أبي ذر رضي الله عنه، و مدى وجاهته أفاد بالآتي : - لا بدّ أولا من تقرير ألا علاقة بين مذهب أبي ذر رضي الله عنه في كنز المال و بين أفكار الاشتراكية الشيوعية ؛ فضلا عن القول بأنّه الاشتراكي الأوّل بحسب بعض الكتاب .
إنّ مذهب أبي ذر رضي الله عنه هو مذهب الصحابة رضوان الله عليهم، برغم ما ينقل من خلاف . و هو ما عرفوه من هدي النبي صلّى الله عليه و سلّم؛ من مثل قوله: ( إن في المال حقاً سوى الزكاة ) و هو حديث صحيح ، و توجيهه في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ( بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَجَعَلَ يُصَرِّفُهَا يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ حَتَّى ظَنَنَّا-أي أيقنا- أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ ) - أي فضل المال .
كما قال قريباً من رأيه فقهاء السياسة الشرعية ومنهم: الماوردي و أبو المعالي الجويني ، إذ يوجبون على الأغنياء الإنفاق مما زاد عن حاجتهم سداً لحوائج الفقراء إنْ لم تكفهم الزكاة أو في حال النوازل و الجوائح .
و أنا أحمل كلام أبي ذر رضي الله عنه على أنّه حال النوازل ، و لا بأس أن يحمل رأيه في كنز المال على إرادة الزهد و سياسة الناس إليه . - أما حمل رأيه على الأحوال العادية سوى النوازل فلا بأس به ، و يتفق مع قاعدة أنه يجب على المسلمين أن يحملوا ضعيفهم و فقيرهم ، فقد روى الإمام أحمد في المسند بسند صحيح، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم ( أَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائعاٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى ) .
إلا أنّنا لا يمكننا أن نوجب على الناس -عملياً- أن يتخلوا عما زاد من أموالهم عن الحاجة لصالح الفقراء والمحتاجين ؛ إذ الزكاة المجمع عليها لا نستطيع إلى إلزام الناس بها سبيلا ؛ فكيف بما هو دونها و الحال أنّ السلطات الحاكمة لا تتبنى ذلك و لا تلزم الأغنياء به ؟! .
و في جواب عن سؤال حول جدوى فكرة السعي في إصدار فتوى ذات صبغة جماعية عالميّة من قبل مجمع فقهي إسلامي أو اتحاد عالمي ؛ قال الدكتور الغنميين : لا بأس بذلك ، إذ ربما تؤثر الفتوى الجماعية في بعض أغنياء المسلمين فيتذكروا أن في المال حقا سوى الزكاة . انتهى كلام الدكتور الغنمييّن .
و أخيراً ؛ مهما كانت وجهة القوة في حجج الفريقين من الفقهاء ؛ فإن الواقع الثقيل أن الفقر و الجوع مشكلتان مزمنتان في تاريخ و حياة الأمة فضلا عن الإنسانية ، و هما من الخطورة بمكان عظيم ؛حيث تؤثران في سائر جوانب الحياة للأمة جمعاء ضعفا و اعتلالا . و إن الرب سبحانه ما قصر قطعا في ربوبيته مخاليقه و إطعامهم و كفايتهم ؛ فكيف يستمر الفقر و يزدهر الجوع قرونا طويلة في ظل الإسلام ؟ أمقبول هذا ؟!