دماء أبنائنا وحياتنا ومستقبلنا يجب أن لا تبقى رهينة اجتهاد
ظاهرة داعش حالة عابرة في الواقع العربي بمقدار ما هي انحراف مستوطِن ومقيم. فا داعش في هذا الواقع ، الذي لم يخلُ يوماً من ظواهر العنف ، ليست سوى بؤرة جذب جماعية لحالات فردية فقدت التوازن بسبب اختلالات دينية واجتماعية وسياسية وتربوية ، بحيث يصح القول إن الحراك الداعشي المشهود هو شكل آخر ومتقدّم من أشكال العنف الذي شهدته المجتمعات العربية على أيدي الأنظمة أو الميليشيات والجماعات المتقاتلة ، مع فارق أنه في غير الحالة الداعشية ، غالباً ما لم تكن الفعاليات العنفية مشرعنة دينياً عبر التراث الفتوائي ، بنحو يجعل الذبح او الرمي من شاهق أو حتى الحرق ، حداً شرعياً وقصاصاً يُحيي أولي الالباب بالطريقة التي يريدها الداعشيون . من هنأ لا يصح احتساب احراق الطيار الاردني معاذ الكساسبة خارج سياق مشهد العنف العربي الا في طريقة الفعل الدموي والإصرار على تظهيره وفق آليات إعلامية محترفة. فما كشف من أرشيف أجهزة الاستخبارات عن ارتكابات الأنظمة العربية البائدة ، بُعيد «الربيع العربي »، يكشف ما لا يقل وحشية عن الإحراق الداعشي للكساسبة. يكفي ، للتأكد من ذلك ، العودة الى مئات الفيديوهات الموثقة والمنتشرة على وسائل الإعلام الالكتروني : دفن للأحياء ، بتر للأعضاء ، قطع للرقاب... في العمق ، المشهد العربي الراهن ليس مبايناً لأحوال العرب إبان الجاهلية الأولى. تقريباً المشهد هو ذاته ، غير أنه يُراعي تحولات الزمان والمكان. إذ باستثناء الممارسة الدينية الشعائرية ، فليس ثمة ما يعيشه المجتمع العربي خارج جاهلية عصرية استبدلت الأصنام بالزعماء ، والغزو بالتقاتل ، والعشيرة بالجماعة ، والثأر بالتآمر ، وبيت الشَعر (بفتح الشين) بالعشوائيات ، والوأد بجرائم الشرف ، واللصوصية بنهب المال العام ، والقحط بالفقر والبطالة ، وحرب « البسوس » بحروب مستديمة لا طائل منها ، و... الجاهلية التي أصابت المجتمع العربي الحديث ناجمة عن ثلاثية التخلف الديني والتبعية للخارج واستبداد الانظمة. فالداعشية المعهودة ليست سوى الجاهلية الأولى ولكن بطورها الأخير ، حيث نجحت « داعش » في جهلنة الإسلام ، واستطاعت تشويه استثناءاته وتأطيرها في صورة واحدة وإحلالها مكان الجوهر والأصل. ليس أدلّ على مأساوية الوضع العربي من توزع الناس بين مؤيد لـ «داعش» على هول ما تفعله وممتعض منها عاجز عن فعل شيء. لا يكفي للخلاص من جاهلية الداعشيين الوعظ والإرشاد والحديث عن وسطية الإسلام واعتداله. الفعل الداعشي المتشدّد لا يُدحضه إلا فعل ديني معتدل يوازيه في الضدية. ولا قيمة للحديث عن نصاعة المفهوم الديني ، مهما كان ناصعاً في الحقيقة ، ما دام الداعشيون يُمسكون بناصية الممارسة والتطبيق. الخلاص من «داعش» وأخواتها يحتاج الى إعادة بناء حضاري تفتقده المجتمعات الإسلامية ، ولا مفرّ من الاعتراف أن التخلّف الداعشي هو، قبل كل شيء، نتاج خلل في الرؤية الدينية ، باعتبار أن الدين وتطبيقاته هما الأصل في حالتَيْ التخلف والتقدم لدى المسلمين. جميع الخلافات الفقهية و المذهبية بين طوائف المسلمين و التي تحوّلت بمرور الزمن الى تناقضات و صراعات و كراهية .. أساسها و جذرها هو فهم و قراءة النصوص الدينية ( قرآن كريم و أحاديث نبوية ) قراءة خاصة تنسجم مع رؤى و مواقف و مصالح كل طرف .. و كذلك فهم و قـراءة قصص و حوادث الـتاريخ الإسلامي و الموروث الإسلامي أيضاً ، و لو أقتصر الاختلاف بالقراءة و الفهم عند حدود الاختلاف الفقـهي فلا ضير في ذلك فاجتهاد أمتي رحمة ..! لكن أن يتحوّل هذا الاختلاف الى بحيرات من الدم .. تـكـفير الآخر .. ألغاء الآخـر .. شيطنة الآخر .. و سبي نسائهِ و أعتباره من الفئة الضالـّة ، و حرق الثروات و الموارد و الممتلكات و حرق فرص التطوّر و التنمية و النهوض الحضاري ...! هنا يجب أن نتوقف و نقول كــفى .. كــفى ..!!! دماء أبنائنا و حياتنا و مستقبلنا و ممتلكاتنا و ثرواتنا ، يجب أن لا تبقى رهينة أجتهاد و رؤيـة هذا الـفقيه أو ذاك .. و هذا العالِم أو ذاك .. ولا رهـينة خطباء المنابـر و الفضائيات المأجورين ..!