بين المقام البيروقراطي والمقام الفكري
في البعد التاريخي لدولة المسلمين,كان هناك مراحل تم التوافق فيها بين العلماء والحكام,أو مايمكن أن نطلق علية القيادات الفكرية للمجتمع الإسلامي ,وكان الحكام يسمعون لهذه الفئة ,وينفذون نصائحهم ,حتى أصبحت كتب الفقه السياسي تصنف تحت عنوان(النصائح),وبعضها باسم السياسة الشرعية ,وكان الوعظ صادقا في كثير من الأوقات ,وقد رفض البعض أن يستلم منصب الفقهاء او منصبا سياسيا لان قيمته في المجتمع كعالم كانت اكبر من قيمته كسياسي,وكانت الناس تفسح لهم المجال حتى في الطواف حول الحرم مهابة ومحبة,وليس خوفا او تملقا وكانت قوة الدولة تتأتى من تلاحم القيادتين الفكرية والسياسية ,ولما أصبحت المناصب السياسية في الدولة من ولاة وحكام تباع,أو تمنح بناء على موالاة أو مال وبغض النظر عن الكفاءة ,بدأ سلم الإدارة في الدولة ينحدر,لان المفاصل تحتاج إلى قوة تحركها,فهبط منسوب القوة,لان المفاصل أصبحت غير قادرة على تحريك المجتمع وتكلست قوة الدفع,وانكفأ العلماء والمفكرون عن قيادة المجتمع,هذه الظاهرة تتكرر في مجتمعنا,فأصبحت قيمة الانسان من موقعه البيروقراطي الذي يصنع منه رمزا يشار إليه ,ويتم تداول اسمه في الإعلام ,وتفسح الناس له مكانا متقدما ليس بناءً على عطاءه الفكري وإنما بمقدار موقعه,ومصلحة الناس من هذا الموقع, سياسة او مالا,وقد اصطلح على هذه الحالة,مايطلق عليه أزمة(المثقف والسلطة),فالمثقف له دورة التي تحتاج إليها السلطة,ولكن ليس بمنطلقاته او أفكاره,وإنما بمقدار مايوظف من هذه الأفكار لخدمة المرحلة,ورضى المثقف أن يكون في هذا الموقع واستفادت السلطة من هذه الذخيرة التي توظف في مرحلة ما,ربما تنتهي بانتهاء المصلحة المتوخاة منه.
مانريدة لتقدم الدولة هي حالة التوافق والقناعات التي يمكن أن تستفيد منها الدولة ويتماسك فيها المجتمع من اجل العبور من مرحلة صعبة نعيشها إلى مرحلة أفضل,تكون المفاصل الأساسية للدولة قوية,بقوة من يقودها,فلابد من تجسير الفجوة بين الأمة والعلماء والحكام حتى تتوحد الجهود في إطار جديد,ومنظومة جديدة من التفكير الاستراتيجي الذي يتجاوز المصلحة, ولا يكون تقدير الناس فقط بناء على موقعهم البيروقراطي الذي من السهل أن نصنعه بأفراد او مجموعات أو قيادات لاتمتلك مؤهلات القيادة وإنما بمنظومة الأفراد والمفكرين الذين يتجاوزون فيها ذاتهم ومصالحهم الآنية والشخصية إلى مصلحة الأمة والمجتمع, ونتجاوز فيها أيضا شبكة العلاقات الشخصية والمصلحية إلى مصلحة الأمة والمجتمع والدولة,ونعيد فيها الهيبة للموقع البيروقراطي عندما يتسلمه المجموعات القادرة فكريا وإداريا على إدارة المرحلة بكل صعوباتها وعقباتها,أنها مرحلة التفكير للمستقبل مستفيدين من تجارب الماضي وأسباب قوة الدول وعوامل نهوضها وتجنب مراحل فشلها فالتاريخ كما هي الفيزياء او الرياضيات يحكم بقانون اسمه(قانونية التاريخ)ويرتكز على سنن ثابتة,(ولن تجد لسنة الله تحويلا) (ولن تجد لسنة الله تبديلا).
drfaiez@hotmail.com