مشروع الملك التنويري
يقدم خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني إلى الأسرة الأردنية الأسبوع الماضي إطاراً عاماً متكاملاً للمشروع التنويري الذي ثبتت حاجة المنطقة له بعد سنوات صعبة دفعت بعض دولها إلى قيعان الضياع والانهيار، ووضعتها كلها في مواجهة ظلامية تهدد الأمن والعقل في آن.
ذاك أن خطاب جلالته جاء شاملاً مباشراً ليس فقط في تعريف الخطر، ولكن في تحديد أدوات مواجهته والانتصار عليه. استنارةٌ لكسر الظلامية والجهل. دمقرطةٌ لتحصين المنجز الوطني ومراكمته. وعملٌ نافعٌ متميزٌ للمضي في تنميةٍ وطنيةٍ تحسّن الأداء الاقتصادي وتبني المستقبل.
أهمية مشروع جلالته التنويري لا تأتي من وضوحه وشموليته فحسب. فهي تأتي أيضا من استناده إلى تجربةٍ حقيقيةٍ ملموسةٍ في مسيرة بناء الدولة الأردنية الحديثة وطناً وهوية.
فهذه الدولة قامت تجسيداً لطموحات النهضة العربية الكبرى في الحرية والعدالة. وهزمت التحديات بتماسك الأردنيين ووحدتهم وتضحياتهم. وراكمت منجزاتها في ظل قيادة هاشمية متلاحمةٍ مع شعبها، ماضيةٍ معه في تكريس التعددية والانفتاح والوسطية واحترام قدسية الحياة قيمة أردنية راسخة.
لذلك فشلت رهاناتٌ كثيرةٌ توهّمت سقوط الأردن حين عصفت رياح الغضب بالعالم العربي.
فالتقدم نحو الأفضل هدفٌ للشعب والملك يسيرون نحوه بحماية الأنموذج الأردني وتطويره، لا بتدميره. ففي دول عربية أخرى كان إرث الدولة قمعياً سلطوياً متناقضاً في جوهره مع الإصلاح، فبات زواله شرطَ ولوج الحرية واستعادة الحق في الكرامة والحياة.
أما في الأردن، فإرث الدولة قائمٌ على الاستنارة والإنسانية، فيتكاتف الأردنيون حوله يحمونه كلما اشتدت التحديات طريقاً للإصلاح.
مشروع الملك التنويري يبني على هذا الإرث. فهو يحاكي الهوية الوطنية القيمية الأردنية في رؤيته لسبل المضي بالمسيرة نحو المستقبل الأفضل. إطاره العام أن "نعيش حياتنا معا، مجتمعا متآخيا ومتراحما مثل العشيرة الواحدة، نبني مستقبلنا بتحصين أجيالنا بفكر حضاري مستنير ضد الانغلاق والتعصب، وتسليحهم بقيم المواطنة والمبادرة والطموح والتميز وحب العمل والإنجاز ونبذ مظاهر العنف ... فجوهر عقيدتنا قدسية الحياة، واحترام الذات والغير".
ترجمة هذا الإطار برامج عملية وسياسات هي مسؤولية كل مؤسسات الدولة، تلبيةً لحق الأردن في المستقبل الذي يريده الشعب والملك. وهي إذ تفعل ذلك، فإنها تؤكد أن الأردن صاحب الأنموذج الذي يديم الأمل بأن منطقتنا قادرةٌ على إنتاج النور والنجاح والحياة الأفضل لشعوبها.
ففي سنوات "الفشل العربي"، بحث كثيرون بيننا وفي الخارج عن أنموذجٍ عزّ للدولة المحدثة الناجحة في إحالة تحدي التغيير الذي طلبته الشعوب فرصاً للبناء والتنوير، لا عواصف للتدمير والتجهيل.
قدم الأردن، لكل من يريد أن يرى، هذا الأنموذج ناصعاً. تصدى للقصورات يعالجها بتأنٍّ وثبات. أقر بالحاجة للتغيير لكن يلبيها بتدرجٍ يحقق هدفها وفق رؤية تضمن الجهوزية اللازمة لها. وظل، في كل ذلك، منسجما مع إرثه الوطني الإنساني المستنير. لذلك نجحت المملكة في إحالة التحديات فرصاً.
وفي ذلك مكمن الثقة بصلابة نهج الإصلاح الذي يقوده الملك، ويلتف حوله الأردنيون باعتزاز ورؤوس مرفوعة، لبناء مستقبلٍ يراكم نجاحاتهم، ويلهم محيطهم.