تفكيك لغز الخلطة السياسية!
الذين يحبون المتوازيات في الجغرافيا السياسية، وجدوا أن ضمَّ الأردن إلى تركيا في فرضية تدخل عسكري في شمال وجنوب سوريا قد يكون أكثر هيبة للصورة، وأوجب في الحسابات المفترضة، وقد اثبتنا في اليومين الأخيرين أن «الاشاعة» التركية أولاً غير صحيحة، وأن الأردن أوضح موقفه منذ البداية ان اخلاء الطرف الآخر من حدوده الشمالية سيكون حالة دفاعية استراتيجية في مواجهة فوضى يمكن أن تمس تجمعه البشري في الرمثا والبادية الشرقية.
تركيا لها حسابات أخرى تتعلق بوضع داخلي للأكراد في جنوب شرق تركيا، ولأكراد سوريا في انتشارهم الدقيق الحدودي داخل سوريا. وقد كان يمكن أن لا يثير ربع مليون كردي سوري قلق أنقرة، لولا تميّز روابطهم في معركة عين العرب مع أكراد حزب العمال الكردستاني، ومنطقة الحكم الذاتي في اربيل.
إن شجاعة وتدريب قوات الحماية الكردية، واستعدادها للتحالف مع الجيش الحر في الشمال السوري، جعلا منها مصدر قلق ليس لتركيا وحدها، وإنما للعراق وإيران أيضاً. فهذا الجيب الهائل الممتد من شمال غرب إيران إلى شمال غرب العراق وشمال غرب سوريا والكتلة الكبيرة في تركيا، تتيح له الفرصة التاريخية التي فاتتهم بعد الحرب العالمية الاولى، لكن ظروف المنطقة تقدم له فرصة ثانية.. ربما ليس لدولة كردية موحدة.. لكنها ليس بعيدة بتجميع وحدات ذات حكم ذاتي يمكن تشكل قاعدة لخلق «دولة الكرد الكبرى» في مدى زمني ربما لا يكون طويلاً.
الأميركيون، بعكس ما هو شائع، لا يرحبون بتدخل عسكري تركي في شمال سوريا.. وكأنهم ينتظرون هبوط سيطرة حزب اردوغان الإسلامي في أنقرة، وعودته إلى قواعده ليكون مجرد حزب سياسي لا تحكمه تصورات امبراطورية أو حتى نفوذ سياسي عثماني.. فالمنطقة العربية كلها تشكل حاضنة تبحث في مسرحها السياسي عن «بطل إسلامي» يوحدها.. فالأكثرية السُنيّة تشعر بخطورة الهجمة الإيرانية المتشيّعة على العراق وسوريا ولبنان.. ولو ان داعش والنصرة كانتا أقل دموية، وأقل وحشية.. لكان يمكن أن تكونا درعاً سُنيّاً جاهزاً لهزيمة التوسع الإيراني.
سوريا، والعراق، ولبنان ستبقى محكومة بتوازنات القوة، طالما أن قوة إقليمية (أو دولية) ليست مستعدة لتدخل مكلف حتى وان كان ذلك سيبقى في حدود نزيف الدم العربي، واهلاك ثرواته على تمويل وتسليح لقوى محكومة بالتفتت، ولعل ذلك يفسر مقولة ان ما يجري ليس صراعاً مذهبياً بين السُنّة والشيعة.. وإنما يتوسل بهما لأهداف سياسية وأنه في أفقه الدولي ليس صراعاً أوروبياً وأميركياً ضد الإرهاب الإسلامي.
علينا تفكيك الخلطة السياسية في المنطقة إلى عناصرها الأولية لنفهمها أكثر. والأردن المستقرّ سياسيّاً (وقد لا يكون مستقراً فكرياً) قريب من فهم هذه الخلطة، مما يجعله أكثر استقراراً وأعمق ثقة.