السؤال المُغيّب في الاتفاق النووي
هوا الأردن - الياس خوري
النقاش العربي والإسرائيلي لاتفاق فيينا النووي يثير مزيجا من الغضب والأسى: الغضب بسبب اللعبة الإسرائيلية التي تريد للمنطقة بأسرها من طهران إلى الدار البيضاء أن تتحول قاعاً مدمراً، وهي تعتقد بشكل جدّي أن على العالم أن يشتغل في خدمة هوس التدمير الصهيوني. والأسى بسبب ردود الفعل العربية، التي راوحت بين الأسف والنقد الخجول والارتباك والخوف.
بين الغضب الإسرائيلي والأسى العربي نسينا معاني الاتفاق ودلالاته الخطيرة على مستقبل المنطقة. وحين استخدم عبارة الدلالات الخطيرة فأنا لست في معسكر النادبين العرب الذين يحكمون هذه الساعة المنقلبة، ويرتجفون هلعاً من تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا يرون سوى الصراع الطائفي السني- الشيعي لأنه وسيلتهم للبقاء ووأد حلم الديموقراطية والعدالة. كما أنني لا أقرأ الاتفاق من منظار وهم انتصار إيراني أو أمريكي لم يتحقق، بل من منظار إيجابي يرى فيه أفقا للشعب الإيراني كي يتخلص من العقوبات التي خنقته في العديد من نواحي حياته.
الهستيريا الإسرائيلية مفهومة، فالكيان المدلل الذي عرف كيف يخدم أسياده الإمبرياليين، من حرب السويس عام 1956 التي خاضها لمصلحة الاستعمار القديم إلى حرب حزيران 1967 التي خاضها في سياق الحرب الباردة، يتصرف وكأنه الطفل المدلل للغرب. ودلاله أوصله إلى الطيش واللامبالاة، ويفاجأ اليوم بأن الولايات المتحدة لن تتابع خوض الحروب التي دمرت المنطقة كي يصل الدمار إلى طهران. والغريب أن هناك إجماعا في الوسط السياسي الإسرائيلي على رفض الاتفاق، على الرغم من التباين اللغوي بين صقور الليكود وصقور العمل. والمستغرب أن السؤال الذي لم يطرحه أحد في إسرائيل على نفسه هو لماذا عجزت الدولة العبرية عن ضرب المفاعلات الإيرانية منفردة مثلما فعلت في العراق وسورية؟ وهل يحق للعاجز وغير القادر أن يفرض على حلفائه حربا لا يريدونها؟
وفي الغالب فإن الابتزاز الإسرائيلي سيفشل في منع الاتفاق، لكنه سينجح في استدراج مزيد من الدعم العسكري والمالي الأمريكي، وغض النظر عن الاحتلال وإشعار اسرائيل بأنها لا تزال في موقعها كمحمية أمريكية.
أما الاسف والنقد العربيين فغير مفهومين. بدل أن ينظر زعماء الخليج، الذين فرضوا زعامتهم على المشرق العربي، بعين الغيرة إلى المثابرة الإيرانية، وإلى الجدية التي تعاملت بها الدولة الإيرانية مع طموحاتها، ويتلقون درسا في الصمود والمثابرة، اذا بهم ينضمون ولو بخفر إلى الندب الإسرائيلي، كأنهم نسوا أن اسرائيل هي من حطم منطقتهم وأذلها، وأن إيران، على الرغم من طموحاتها التوسعية، قد تكون خطرا يمكن استيعابه، أما إسرائيل فهي الخطر الأكبر الذي يجب مجابهته.
أريد التوقف عند سؤالين كبيرين مغيبين:
السؤال الأول هو نجاح المفاوضات بكل ما أثارته من المناورات الدبلوماسية المعقدة، في إخفاء وحجب الحقيقة التي يعرفها الجميع ولا يريدون الاعتراف بها، حقيقة أن الدولة النووية الوحيدة في المنطقة هي إسرائيل. إيران لم تطرح الموضوع على الطاولة، وهذا مفهوم، لأن الهم الأول للاستراتيجية التفاوضية الإيرانية كان الوصول إلى رفع العقـــــوبات، من دون دفع الثمــــن الكبير، أي تجريد إيران بشكل كامل من قدراتها النووية. مهمة المفاوض الإيراني كانت صعبة جداً، لكنها نجحت بسبب تضافر ثلاثة عوامل: الاستعداد الإيراني لتقديم تنازلات كبيرة وقرار إدارة أوباما بعدم الدخول في مغامرة عسكرية جديدة، واللعاب الأوروبي الذي سال أمام الآفاق الاقتصادية التي يفتحها الاتفاق للاقتصاد الأوروبي المتهالك.
هذه الحقيقة يجب أن لا تحجب أن الاتفاق شرعن القنبلة النووية الإسرائيلية، وهذا ما لم يره حمقى النظام السياسي الإسرائيلي، الذين يتصرفون وكأنهم خارج القانون الدولي. لقد أعطى الاتفاق شرعية لإسرائيل كي تكون دولة نووية، لأنه سكت عن الأمر، ولم يحاول ولو للحظة النظر إلى الشرق الأوسط بصفته منطقة واحدة.
غير أن هناك ما يتفوق بأشواط على الحماقة الإسرائيلية بغبائه وغياب أي بعد استراتيجي عن سياساته، انه الموقف العربي. بدل أن يرمي العالم العربي بما تبقى له من نفوذ، رغم قلته، خلف استراتيجية سياسية وإعلامية عن الخطر النووي في المنطقة، وضرورة ان تكون المنطقة بأسرها، وليس فقط إيران والدول العربية، خالية من السلاح النووي، تلهت الأنظمة العربية بصراعاتها وضيق أفقها الاستراتيجي وخوفها من ثورات الشعوب العربية، جاعلة من إيران هوسا ووسواسا، بعيدا عن أية عقلانية استراتيجية.
هذا الكلام لا يقلل من خطر الخطاب الديني- الطائفي الإيراني على المنطقة، وهو خطر مواز لخطر الخطاب الديني- الطائفي الشبيه الذي تتبناه مروحة تمتد من الأنظمة إلى داعش. ولا يقلل أيضا من حجم الكارثة التي وقعت فيها المنطقة في هذه الحرب الطويلة والمجنونة التي تقوم بتحطيم حلم الثورة الديموقراطية. غير أن هذا الخطر يجب أن لا يحجب الخطر الإسرائيلي الأكبر، والتدلل النووي الإسرائيلي الذي صار مرادفا للوقاحة.
والحق يقال فإن هناك موقفا عربيا واحدا يستحق التحية، هو موقف القائمة العربية المشتركة في الكنيست. فلقد أصدرت القائمة بيانا على إثر توقيع الاتفاق جاء فيه: «… ورحبت القائمة المشتركة بالاتفاق ووصفته بأنه انتصار لإرادة الشعب الإيراني ونضاله من أجل رفع الحصار والعقوبات عن دولته، ورفضه الاستسلام للإملاءات الدولية. وطالبت بأن يسري الاتفاق بشأن نزع الأسلحة النووية على إسرائيل، التي ما زالت ترفض توقيع المواثيق الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية».
يستحق أيمن عودة وجمال زحالقة ورفاقاهما التحية، لأنهم صوبوا، من موقعهم النضالي في فلسطين، البوصلة كي تدل على العدو الرئيسي.
السؤال الثاني هو غياب فلسطين عن مشكلات المنطقة. ففي المؤتمر الصحافي الطويل الذي عقده اوباما من أجل تسويق الاتفاق، سُئل الرئيس الأمريكي عن مشكلات المنطقة وآفاقها على ضوء الاتفاق. أجاب الرجل محددا مشكلات المنطقة الكبرى بصفتها ثلاث مشكلات: العراق وسورية واليمن، داعيا إلى تعاون دولي وإقليمي من أجل حلها.
لا أريد أن أسأل أوباما عن مسؤوليته ومسؤولية الولايات المتحدة عن تفاقم هذه المشكلات، أو عن الخطوط الحمراء التي وضعها ثم تراجع عنها، مبتلعا وحشية النظام الاستبدادي في سورية واستخدامه للسلاح الكيماوي، فالرجل حر، وأمريكا تدافع عن مصالحها، ومصير الشعوب العربية ليس جزءا من هذه المصالح. لكن اللافت في هذا التحديد هو غياب فلسطين. أريد أن أسأل فقط هل أحد أثمان الاتفاق هو التواطؤ مع سياسة الضم الزاحف الإسرائيلية، والصمت أمام توحش الاستيطان الاستعماري؟
ماذا تشعر السلطة الفلسطينية وقيادة «حماس» أمام هذا التجاهل الفاضح لفلسطين؟
أم أن فلسطين خرجت من هموم المنطقة؟ ومسؤولية إخراجها لا تقع على الأمريكان أو الإسرائيليين وحدهم، بل تقع أساساً على سياسة القيادات الفلسطينية التي تلهت بصراعاتها على سلطة ليست سوى الوهم والوهن، وعلى سياسات عربية وإقليمية سائدة قررت أن حماية الاستبداد هي الطريق إلى فلسطين التي اختفت عن خريطة الصراع في المنطقة!؟