مع شيخ العربية محمود شاكر رحمه الله
لقد خدم العربيةَ العلامةُ الاديب محمود شاكر – رحمه الله – وشهد له بذلك الكثيرُ من العلماء ، وقد كان لهذا العلامة تلاميذ كُثُر ، ومن أخصِّهم الدكتور محمود الطناحي – رحمه الله – وقد دافع عن شيخه وأستاذه بكل ما أوتِيَ من قوةٍ ، وحُقَّ له ذلك ، فهذا هو الوفاء الذي عزَّ في هذا الزمان الذي سادتْ فيه المصالح المادية والدنيوية !
وقد عَقَدَ الطناحي في إحدى مقالاته مقالا بعنوان : ( محمود محمد شاكر ، ومنهجه في تحقيق التراث ) ، أثنى عليه فيه أيَّما ثناءٍ ، ومما أثنى عليه أن العلامة محمود شاكر كان خبيرا بالروايات الشعرية الأدبية ، وعنده تمييزٌ دقيق بين صوابها ، وخطئها ، ودلل على ذلك باستدراك محمود شاكر على رواية رواها الامام ابن جريرالطبري – رحمه الله – في تفسيره ، وأوضح أن رواية الطبري لأبيات الشاعر رُشَيْد بن رُمَيْض العنزي في مدح شُريح بن ضبيعة المُلَقَّب ب ( الحُطَم ) فيها خطأٌ في وصف ساقَيْ الحُطَم ، ولن أتطرَّقُ الى تحقيق سبب انشاد الابيات ، لأنها عند الطبري وردت لسبب ، وعند الأصفهاني وردت لسبب آخر ، فعند ابن جرير الطبري أنها وردتْ في عصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكشفتْ خيانةَ وغدر هذا الممدوح ( شريح ) ، وعند الأصفهاني أنها قيلت في الجاهلية بسبب حرب دارتْ رحاها بين الربيعية واليمانية ، وكان شريح رئيس الربيعية ، وأنه قادهم إلى برِّ الأمان بعدما كادتْ البيداءُ أن تلتهمهم !
والأبيات :
هذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتِدِّي زِيَمْ
..... قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسوّاقٍ حُطَمْ
ليس بِرَاعِي إِبِلٍ ولا غَنْم
..... ولا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمْ
بَاتَ يُراعِيهَا غُلامٌ كَالزُّلم
..... خَدَلجُ السَّاقَيْنِ خَفَّاقُ القَدَمْ .
فكان استدراكُ العلامة محمود شاكر على هذه الرواية التي رواها ابنُ جرير وغيره من الرواة ، ونَصُّ كلام العلامة محمود شاكر :
( خَدَلَّجُ الساقين : ممتلئُ الساقين ، وهذا غيرُ حسنٍ في الرجال ، وإنما صوابُ روايته ما رواه ابنُ الأعرابي : مُهَفْهَفُ الكشحين خَفَّاقُ القدمْ ) .
فلا أدري ما سببُ اعتراضِ العلامة محمود شاكر على هذه الرواية ، وادِّعاؤه أن ذلك ليس حسنا في الرجال ؟!
في حين أن كثيرا من الرواة والإخباريين رووا الرواية التي اعترض عليها شيخُ العربية محمود شاكر – غفر الله لنا وله – ولكنه اعتمد رواية ابن الأعرابي لأنها توافقُ ما ذهب اليه في عدم حسن غلظ الساقين في الرجال !
فإن غِلَظ الساقين في الرجال لدليلٌ على عِظَمِ البنية والخِلْقَة وهذا ممدوح في الرجال ، فقد جاء في اللسان :
( خدلَّج : خدلج : الخدلجة ، بتشديد اللام : الرَّيَّاء الممتلئة الذراعين والساقين وأنشد الأصمعي :
إن لها لسائقا خدلجا لم يدلج الليلة فيمن أدلج ) .
فسائقُ الناقةِ من صفاته خَدَلَّجٌ وهو عظيم الساقين ، وهو في موطن المدح مذكور كما أشار له الأصمعي .
ولا يكون خَدَلَّجَ الساقين إلا إذا كانت بُنْيَتُهُ عظيمةٌ ، وهذا من ممادح الرجال ، وقد جاء في حديث المتلاعنين في البخاري وغيره من رواية سهل – رضي الله عنه - :
( وإن جاءت به أورقَ جعداً جُماليِّاً خَدَلَّجَ الساقين سابغ الإليتين ؛ فهو للذي رُمِيَتْ به ) .
قال الخطابي – رحمه الله - :
( الخَدَلَّجُ : العظيم الساقين ، والجُمالي : العظيم الخَلْق ، شبَّه خَلْقَهُ بخلقِ الجمل ، يقال : ناقةٌ جمالية إذا شُبِّهَتْ بالفحل من الإبل في عِظَمِ الخَلْق ) .
والخَدَلَّجُ صفة مدحٍ للرجال لا كما ظنَّ العلامةُ محمود شاكر – غفر الله لنا وله – ومما يُقَوِّي ما ذهبنا له أن ( الحُمْشَ ) في الساقين مما يُعابُ عند العرب ، والحُمْشُ هو دِقَّةُ الساقين ، جاء في الحديث الصحيح في مسألة موضع إزار المؤمن ، عن عمرو بن فلان الأنصاري قال:
( بينا هو يمشي وقد أسبل إزاره،إذ لحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصية نفسه ، وهو يقول: اللهم عبدك ابن عبدك ابن أمتك
قال عمرو: فقلت: يا رسول الله إني رجل حمش (دقيق) الساقين، فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه،يا عمرو…
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو ، فقال: هذا موضع الإزار ) .
فإن الحموشَةَ جعلتْ الصحابي – رضي الله عنه – يُسْبِلُ إزارَه ، حتى علَّمَه رسولُ الله ، وأرشدَهُ .
والحموشَةُ على نقيض الخَدْلَجَةِ ، لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال في وصف الطفل في حديث المتلاعنيين :
( انظروها، فإن جاءت به حمش الساقين كأنه وحرة، فلا أراه إلا وقد كذب عليها، وإن جاءت به أكحل جعدًا جماليًا سائغ الأليتين خدلج الساقين فهو للذي رميت به ) .
وإن عِظَم الساقين في الرجال مما هو ممدوحٌ الى الان ؛ فإننا نجد الرجل العظيم الساقين أثبتَ في العراك ، وفي صِعاب الأمور ، فكنَّا نرى بعضَ الرياضيين كلما عَظُمَتْ عَضَلَةُ ساقيه كلما كان أقوى على تلك الرياضة التي يمارسها .
وإنْ الناظرَ للرَّجْز الذي قاله رُشيد بن رُميض العنزي في مدح شريح بن ضبيعة ، لَيَشْعُرُ بهذه ( الخَدْلَجة ) في الساقين ، فإن التشديد الوارد في ستة ألفاظ تَخُصُّ شريحاً من ذلك الرجز : ( الشدِّ ، فاشتدِّيْ ، الزَّلَم ، سوَّاق ، خَدَلَّج ، خفَّاق ) يُشْعِرُكَ بالشدة وامتلاء الساقين بالعضلة والتفافها حول عظم الساق .
فكلمة ( خَفَّاق القدم ) يتناسبُ مع ( خَدَلَّج الساقين ) فإن الخَفْقَ هو الاضطراب والحركة القوية ، وجاء على صيغة المبالغة ، وهذا لا يتأتَّى لِقَدَمِ من كان في ساقيه حموشة أي ؛ دقَّة !
والجو العام وهو الليل وفِعْلُ الليل ( قد لَفَّها اللَّيْلُ ... ) ، يجعلُك مما يستشعِرُ متانةَ وعِظَمَ ذلك السَّوَّاق .
والعربُ تمدحُ عِظَمَ الرجل حتى شَبَّهَتْهُ بالسَّرحة ، وهي الشجرة العظيمة .
فرحم اللهُ شيخَ العربية محمود محمد شاكر ...