قاعة البلدية وقبة البرلمان
كم نحتاج من الوقت كي نكتشف- كما يحدث في الديمقراطيات العريقة- أن العمل الديمقراطي الذي يقود الإصلاح وينعكس على حياة الناس، يحتاج لأن تكون قاعات البرلمانات انعكاسا لما يدور في قاعات البلديات والمجالس المحلية، وليس العكس؛ أي إن الديمقراطية العميقة الراسخة في الأرض تبدأ من تمكين المجتمعات المحلية للمشاركة في إدارة شؤونها ومنافعها؟
استحقاقان ينتظران الأردن في العام المقبل، ربما هما الأهم في أجندة التحولات الأردنية للعام الجديد. إذ يُنتظر أن يوضع قانون اللامركزية موضع التنفيذ بعد أن أخذ صفته الدستورية، وأن تُستكمل المراحل الدستورية لقانون الانتخابات التشريعية قريبا، ما قد يجعل 2016 عاما للانتخابات بامتياز.
ولو قيض لنا أن نحدد ما الأهم في معايير الإصلاح وغرس العمل الديمقراطي- في ضوء خبرة السنوات الخمس الأخيرة في التحولات العربية، وخبرة عقود طويلة من حصاد التجارب الديمقراطية العالمية- فإن الخيار سيكون لصالح الديمقراطية المحلية؛ أي لصالح إصلاح الحكم والإدارة المحليين، أي اللامركزية.
نحن بحاجة إلى جهد كبير لتحضير المجتمعات المحلية للاستجابة والتكيف مع متطلبات اللامركزية. لكن، وللأسف، فإنه لهذا الوقت لم يحدث شيء على هذه الطريق. ونحن بحاجة إلى جهد كبير لتحضير الإدارة المحلية، من المحافظين وصولا إلى صغار الموظفين، للتعامل مع استحقاقات اللامركزية. لكن وللأسف أيضا، لم يحدث ذلك إلى هذا الوقت. كما هي الحال بشأن تحضير المؤسسات الأخرى، والتأكد من بناء قدرات محلية قادرة على حمل هذا المشروع.
التحول إلى اللامركزية عملية ليست سهلة، لن تستكمل في عام واحد. وإذا ما توفرت إرادة حقيقية لإنجاز هذا المشروع، والانتقال بالبلاد خطوة حقيقية نحو إصلاح تنموي وسياسي، فإن ما قد يُزرع في هذا العام سيترك آثاره على خرائط الإصلاح لعقود طويلة. وهنا العقدة الحقيقية والمتمثلة في الإجابة الصريحة عن سؤال: هل هيأنا البلاد لهذا التحول؟
المسألة ليست مجرد وجود مجلس في كل محافظة، مع مجموعة صلاحيات قد تكون محدودة؛ وليست مجرد مجالس محلية أو برلمان محلي وحكومة محلية؛ وإنما هي انتقال اجتماعي سياسي، يؤسس لإعادة إنتاج المجتمعات المحلية في المحافظات، ضمن مصفوفة كبيرة من متطلبات التغيير التي تقود إلى إعادة التمأسس لهذه المجتمعات على قيم المشاركة والمسؤولية، وبالتالي الإنتاجية والتنافسية، وفي نهاية اليوم تحقيق تغيير نوعية الحياة للأفراد والأسر. اللامركزية تعني تحولا إداريا وسياسيا واجتماعيا، يقرب الناس من الشؤون العامة، ويزيد بالفعل من قدرتهم على تحمل مسؤولية مصالحهم، حينما تتحول المصلحة العامة إلى مجموع مصالح الناس، وبالتالي قدرتهم على المساءلة الجادة والفاعلة.
الأردن اليوم متماسك وموحد أكثر من أي وقت مضى، رغم ما يعاني منه الناس من آثار الاختلالات الاقتصادية. فالحاجة إلى هذه الإصلاحات تعد أحد المداخل الأساسية لبناء عمق اجتماعي حقيقي للديمقراطية والمشاركة، وإعادة إنتاج المواطنة، كما الحال بإعادة إنتاج النخب المحلية بالاستناد إلى الكفاءة والإنجاز؛ فاللامركزية هي جسر متين لبناء ديمقراطية محلية، تحمل الديمقراطية الوطنية وتحميها.