الشارع الدولة: قيادة لا تحتاج شعبا؟
يُعلّق مواطن أصابته مصيبة في بلد عربي، على إهمال القيادة له: "هل استغنت القيادات عن الشعوب؟!". ويوضح: "ألم يعد الشعب مهماً للقيادة؟!". ويكمل: "كيف يمكن أن يكونوا قادة من دون شعب؟!". بمعنى أنّ القيادات برأيه لا تشعر بأنها بحاجة لشعوب. أجيبه: ربما الأمر أعقد من هذا؛ ربما أنتم أوجدتم دولة بديلة.
هذا المواطن قيادي حزبي في منطقته. كان في الماضي "مفتاحاً" انتخابيا وسياسياً للزعماء الذين يبحثون عن التأييد. جاءه أبناء الأحزاب في المنطقة، بعد مصيبته بمقتل ابنه، ولكن أحداً من القيادة السياسية لم يتصل به. فماذا حدث؟
في الماضي، كان هناك تلفزيون واحد، وصحافة موحدة قوامها صحف قليلة تتشابه في أخبارها ومضمونها، ودولة توفر التعليم والعمل والصحة. وكان الشعب إذا أراد الاحتجاج ينتمي لأحزاب تجتمع قياداتها سراً وعلانية، وتصدر مواقف وتنظم مظاهرات في الشوارع الأساسية. بل كان هناك عدد محدود من المغنين السياسيين والشعراء الثوريين والوطنيين.
الآن اختلف الأمر.
كان يُخشى أن تؤدي العولمة إلى إذابة الفروق بين الشعوب والثقافات وطمسها وتحويلها لشيء موحد عالمياً. اتضح أنّ الشبكات العالمية (العولمة) قد تقضي على الدولة وعلى الشبكات الوطنية للعمل السياسي والهوية والانتماء، ولكنها في المقابل تنتج شبكات فرعية محلّية صغيرة.
أدت الخصخصة إلى تقليل نفوذ الدولة والقيادات المتحكمة بها، لصالح شركات ورجال أعمال، سرعان ما تبخروا لصالح الشركات العالمية. لم يعد هناك شخصية مثل "علام السماحي" في مسلسل "ليالي الحلمية"، الذي كان يدير المقهى الذي يجتمع فيه أهالي المنطقة، وحلت محله مقاهٍ معولمة بأسماء عالمية، وصار اسمها "كوفي شوب". واختفت محطات البنزين التي تسمى باسم عائلات أصحابها لصالح شركات كبرى.
صار المتعلمون، ومن يتحدثون بلغات أجنبية، يجدون في شبكات وأصدقاء افتراضيين عبر الإنترنت، وفي الجامعات والمؤسسات والشركات العالمية حول العالم، شبكتهم الحقيقية، وهناك علاقاتهم القوية. ولم يعد الحزب المحلي، والفصيل السياسي، وأبناء البلد، والجامعة والنقابة، محور نشاط الشخص اليومي، ولم تعد الصحيفة المحلية منبره.
في العشرين سنة الفائتة، انتشت وازدهرت الهويات الفرعية غير المادية، القديمة؛ رداً على حالة تحلل الدولة هذه، وتوهان الثقافة الوطنية لصالح العالمية، فبُعثت طوائف وقوميات وأعراق.
الآن، بعد مجازر البلقان والعراق وسورية وليبيا وغيرها، وبعد فشل مشروع الدولة الفلسطينية، وفشل تجارب الانتخابات والثورة في دول عدة، يراجع الناس أفكارهم.
بما أنّه لا حاجة لصحيفة جامعة، ولا تلفزيون وحيد، ولا يوجد حزب وطني؛ وبما أنّ الأكاديمي والمثقف والسياسي منسلخون في شبكاتهم المعولمة، وسفرهم؛ وجامعاتهم منخرطة في برامج الجودة الشاملة، وبرامج وقضايا التصنيف الدولي للجامعات، وحتى مصارفهم تأتي لهم بألفاظ غريبة عن أشياء لا يفهمونها، مثل "معايير بازل" للكفاءة المالية، وغير هذا... فإنّهم وبالأدوات ذاتها ينكفئون على أنفسهم.
بجانب كل حالة الانهيار الوطني المؤسساتي، هناك انتعاش لشبكات أو بنى محلية صغيرة. أصبح "فيسبوك" والراديو المحلي، وسيلة للإعلام تغني عن الإعلام الوطني. ولا يعلم الفنانون الكبار والقادة السياسيون (في العواصم)، أنّ كل قرية وبلد صار فيهما مغنون يغنون أغاني محلية خاصة بالمنطقة وأبنائها، بعد أن أصبح هذا سهلا بفضل التكنولوجيا. وصارت هناك قضايا محلية للمدينة والقرية تعالجها شبكات تواصل اجتماعي ومحطات راديو وتلفزيون محلية.
لقد دمرت الشبكة العالمية للمعلومات والاتصال، ومعها شبكات الشركات والمقاهي والمطاعم العالمية، الشعور بالخصوصيات الوطنية والشعور بالوحدة القومية، ولكنها لم تفعل ذلك لصالح شبكة عالمية قوامها الأفراد، بل وبعد سنوات من انتشار الهويات الفرعية السابقة للدولة الحديثة، من طائفة وقبيلة، هناك الآن انكفاء إضافي جغرافياً، بمعنى أنّ الناس الذين يلتقون وجها لوجه يوميا بفعل مكان السكن، والهموم الخدماتية، وباستخدام أدوات العولمة أيضاً، يطورون أفكارا وقضايا وهموما لا يفهمها القادة الوطنيون أو الطائفيون (أي الذين يحتلون مناصب رسمية ويعملون عن بعد)، وهناك انقسام بين المركز السياسي والأطراف الشعبية.
هناك بحث عن بطولة في "المحليات" الصغيرة، هناك محليات صغيرة لها سمات كانت للدولة والمجتمع الأكبر، حتى لو تبنت (هذه المحليات) هويات وثقافات دينية وعقائدية متباينة. فلكل مجتمع صغير أحزابه وقادته وأبطاله وأغانيه، وربما "داعشه".