يا فلسطينيي الشتات: "مَن أنتم؟!"
كنتُ قد نشرتُ في هذا المكان مقال رأي عن نوع القيادة التي يحتاجها الفلسطينيون، واقترحتُ أن لا يستأثر بالقيادة فصيل يفرض رؤيته على الحدث الفلسطيني، وإنما أن تقود هيئة جامعة مثل منظمة التحرير الفلسطينية، بعد تعديل هيكلها بحيث تصبح ديمقراطية تشرك الفلسطينيين في كل مكان، ولا تخضع لفرد أو جهة. وأشرتُ أيضاً إلى تركيبة "أوسلو" باشتراطاتها الراهنة، وكيف أصبحت نتاجاتها عبئاً على الحالة الفلسطينية إلى حد دفع الشباب اليائسين تحت الاحتلال إلى تنفيذ عمليات ارتجالية فردية انتحارية، بلا قيادة.
وجاء ردٌّ بالبريد الإلكتروني من أحد ما (لم يقل من هُو، ولم يذكر اسمه)، والذي سأسرد شيئاً من محتواه -لا لأهميته الخاصة، وإنما لأنه يمثل اتجاهاً فلسطينياً يتخذ شكلاً شعبياً ورسمياً، ليس إيجابياً على أقل تقدير: تغريب "الآخر" الفلسطيني، ناهيك عن العربي والكوني، واستبعاد فلسطينيي الشتات من المشورة والعمل في المشروع الفلسطيني، بلا جريرة معروفة.
بحذف الشتائم المباشرة التي وردت في "تعليق" المرسل، فإنه ردّ على اقتراحي بضم فلسطينيي المنفى والاستثمار في طاقاتهم، بأن هذا الرأي "هزيل" وليس فيه الموضوعية التي تليق بكاتب! وفي التعليق على اقتراحي بأن ما يجري الآن هو أن القيادة الفلسطينية ينبغي أن تكون قائدة نضال فلسطيني مستمر، وليس دولة لأنها ليست هناك دولة بعد، كتب المرسل: "هناك دولة تُبنى رغم أنف الحاقدين والحساد والمنعزلين في بيوتهم". حاقدون وحُسَّاد ومنعزلون؟! لماذا كل هذا الغل؟ وكان الرد الأهم دلالة على فكرتي عن القيادة، هو تساؤل المرسل المجهول: "من أنت حتى تتحدث عن القيادة؟؟ شو حضرتك قدمت من مكان وجودك للقضية؟؟" (علامات السؤال المضاعفة من عند المُرسل).
ثم أرسل المرسل رابطاً لمقال (لا أدري إذا كان هو كاتبه أم أنه أراد أن يريني ما هي الكتابة)، والذي يمتدح زعيماً فلسطينياً معيناً ويعدد منجزاته. وليس لي اعتراض على محتوى المقال ولا يمكن أن أشتم كاتبه، لأنه حُرٌّ في التعبير عن رؤيته، بقدر ما ينبغي أن أكون حُرّاً في بسط رؤيتي.
الذي أعترض عليه، وكثيراً ما يتكرر، هو سؤال "مَن أنتَ؟!" عندما يدلي أحد برأي حول أداء القيادة الفلسطينية أو يقترح شيئاً لنهج العمل. ويكفي هذا السؤال سوءاً أنه يطابق ردة فعل العقيد الليبي الراحل معمر القذافي الشهيرة: "مَن أنتم؟!". وسواء كان المستهدف بالسؤال التحقيري فلسطينياً من الشتات، أم شقيقاً عربياً، أم معلقاً أجنبياً، يظل من غير المفهوم أن يدّعي أحد لنفسه سلطة كتم صوته، لمجرد أن "الكاتم" موجود بالصدفة داخل فلسطين المحتلة، أو أنه يؤيد الفصيل "الحاكم".
ينبغي أن لا يكون توزيع الفلسطينيين الجغرافي في الداخل أو الشتات محتاجاً إلى توضيح. ومن الممكن بسهولة تصور تبادل مكان التواجد لأسباب لا تخضع للاختيار الفردي. ولذلك، يعزُّ على الفلسطيني الذي وجَد نفسه مولوداً في الشتات أن يقال له أن لا دخل له بفلسطين ولا رأي له فيما يُطرح لها من حلول. ولا ينبغي أن يطالب فلسطيني من الداخل إلى فلسطيني في الشتات -ناهيك عن الأشقاء العرب المعنيين حتماً بالقضية- أن يَخرس، باعتبار أنه اختار أن لا يفعل شيئاً.
لا أحد ينكر أن الفلسطينيين الذين كان قدرهم التواجد على أرض الوطن يدفعون الكلفة الأكثر مباشرة ووضوحاً للاحتلال، لكنه لا يجوز أيضاً إغفال المعاناة التي واجهها ويواجهها الفلسطينيون المنفيون في أماكن اللجوء، وتناسي أن النشوء الفعلي للمقاومة الوطنية السياسية والعسكرية كان في الشتات. واليوم، يشهد حال لاجئي مخيم اليرموك في سورية، ومخيمات لبنان على استمرار نكبة الشتات، بالإضافة إلى الألم المتوارث الذي لا يتراجع في قلوب كل الأجيال الفلسطينية منذ النكبة وحتى الآن.
كأنما لا يكفي شقاق الفلسطينيين الرسميين المستمر الذي استدعى حتى دعوات أعدائهم إلى "المصالحة"، وانقسامهم المفرط إلى نوع غريب من الفصائلية، حتى تنشأ قسمة جديدة بين فلسطينيي الداخل وأشقائهم في المنافي. وكأنما لا يكفي إنكار العدو حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم، وتنازل بعض الفلسطينيين الرسميين ومن يتبعونهم ويمتدحونهم عن هذا الحق من دون استشارة أصحابه، حتى يتكرر خطابٌ غير واعٍ للاشتراطات والإمكانات، والذي يخاطب مواطنيه في أي مكان بالسؤال المزدري: "من أنتَ؟!" و"من أنتم؟!".