حرب العراق الأولى
لم ينتصر "داعش" على الجيش العراقيّ بسبب قوّته. احتلّ التنظيم الإرهابيّ الموصل وبسط سلطته على مساحاتٍ شاسعةٍ من العراق بسبب هشاشة النظام السياسيّ الذي قسّم العراق مجموعاتٍ سكانية متضادّة، وقزّم الدولة إلى حارات نفوذ. وعليه فإنّ الانتصار في الحرب على العصابات الإرهابيّة شرطه إصلاح النظام السياسيّ.
ثمّة محاولاتٌ يقوم بها رئيس الوزراء حيدر العبادي الآن لتنقية العمليّة السياسيّة من التشوّهات التي تهدّد البلد ووحدته وتماسكه. لا ترتقي الإصلاحات المطروحة إلى الحدّ المطلوب. لكنّها، رغم ذاك، تواجه ممانعةً شرسةً من قوىً سياسيةٍ ما تزال تنطلق في مواقفها من حساباتٍ مصالحيةٍ مذهبيةٍ ضيّقة.
مستقبل العراق القريب محكومٌ بنتائج عمليّة الإصلاح السياسيّ وجديّتها. نجاح هذه العمليّة سيعني أنّ العراق سيمتلك فرصةً جديدةً لاستعادة المبادرة وإعادة بناء الدولة. فشلها سيقود حتماً إلى فوضى أعمق وإلى تفكّك الدولة.
فقد نما "داعش" وتمكّن في العراق نتيجة السياسات الإقصائيّة التي اتبعها نوري المالكي ضدّ السنّة. استغل الإرهابيون مشاعر القهر والتهميش، واستطاعوا أن يجنّدوا ضبّاطا بعثيّين سابقين وصلوا حدّا من الإحباط دفعهم إلى التحالف مع الشيطان "الداعشي". ترعرع الإرهاب في يباب اليأس الذي صارته مناطق السنّة في العراق.
جاء العبادي إلى الحكم بعد أن اقتنع العالم، وكثيرٌ من العراقيّين، أنّ بقاء المالكي طريقٌ حتميةٌ إلى الهلاك. وتسلّم الحكم وفق التزامٍ مكتوبٍ بإصلاح ما أفسده المالكي. لكنّ الإصلاحات تلكّأت. وبقيت القوى السياسيّة التي دعمت المالكي مسيطرةً على المشهد، تقدّم أجنداتها الضيّقة وولاءها لإيران على مصالح العراق وعلى هويّتها العراقيّة.
ولم يكن السنّة وحدهم ضحايا النهج المالكي. طغى الفساد على مؤسسات الدولة التي لم تقف عاجزةً عن مواجهة حفنةً من الإرهابيّين فقط، بل باتت على عتبة انهيارٍ اقتصاديٍّ ماليّ. يواجه العراق الآن عجزاً ماليّاً يدفع ثمنه كلّ العراقيّين. بنية الدولة التحتيّة في أسوأ أحوالها، والأوضاع المعيشيّة في تدهورٍ مستمر.
ومرّت أشهرٌ طويلةٌ منذ تولّى العبادي السلطة من دون إحراز أيّ تقدّم يذكر في المسيرة الإصلاحيّة. صحيحٌ أنّ الدولة كسبت بعض المعارك ضدّ "داعش". لكنّ ذلك ما كان ليتمّ من دون الدعم الأميركيّ. ولم تترافق الانتصارات العسكريّة مع انفراجاتٍ سياسيّة. فشلت الحكومة في تلبية احتياجات المهجّرين والنازحين من المناطق المحررة. وفي رسالةٍ سياسيةٍ ذات انعكاساتٍ كارثيّة، منعت الحكومة أهالي الأنبار السنّة من دخول عاصمتهم. وها هم الآن يعانون مرّ التهجير والعوز في مخيماتٍ لا تمتلك الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة.
يسعى العبادي الآن إلى تغييرٍ حكوميٍّ يقلّل الاعتبارات الحزبيّة في اختيار الوزراء، ويقدّم المؤهّلات الفنيّة على الولاءات السياسيّة. هذه خطوةٌ صغيرةٌ لكن ضروريّة لإعطاء الزخم لعمليّة الإصلاح. ولا تأكيدات على أنّ هذه المبادرة ستنجح. لكن حتّى لو استطاع العبادي تمريرها، فإنّ انعكاسها على حال العراق لن يكون ذا أثرٍ إذا لم تترافق مع تغييرٍ جذريٍّ في إدارة شؤون الدولة.
لا بدّ من إعادة الاستثمار في بناء الهويّة العراقيّة الجامعة. تحقيق ذلك يتطلّب الالتفات إلى المظلوميّات الحقيقيّة التي يعيشها العراقيّون السنّة. ثمّة حاجةٌ لخطواتٍ جادةٍ تنهي التمييز والتهميش. ولا فائدة من أيّ إصلاحٍ لا يقود فوراً لرفع القهر والعوز عن ملايين المهجّرين الذين فقدوا الإيمان بالعراق دولةً وهويةً، خطوةً أولى نحو إعادة بناء الثقة بمؤسّسات البلد.
يقف العراق اليوم على مفترق. معركته الأساسيّة ليست ضدّ "داعش." هي ضدّ الأسس التقسيميّة الإلغائيّة التي قام عليها النظام السياسيّ بعد انتهاء الاحتلال. النصر في هذه المعركة سيقود حتما إلى نصرٍ مدوٍّ على "داعش" التنظيم و"داعش" الفكر الظلاميّ. وبغير برنامجٍ إصلاحيٍّ شامل، سينحدر العراق إلى هاويةٍ أعمق من الفوضى والضياع والمعاناة.