صافوط (2)
في عيد الأم، ما الذي يستطيع أن يبتاعه صبي في العاشرة من عمره، يريد إثبات ذاته من خلال هدية مفاجئة يقدمها إلى أمه، لتسعد بها، وليس في قرية صافوط (التي بدأت الحديث عنها في مقال الأسبوع الماضي) سوى بقالة صغيرة تبيع السكر والرز والطحين والمنظفات و"الشيبس" والشوكولاتة التي لا يزيد سعرها على خمسة قروش، وبعض حاجيات البيوت البسيطة الأخرى؟
ليس ثمة خيارات واسعة! لذا كان يجري الاتفاق سنوياً مع الأخ والأخت، وهم يصغرونه سناً، على شراء شيء ما، كهدية، من بقالة "أبو حابس"، مما تيسّر تحويشه من المصروف اليومي. من الضروري عندها أن يجري الشراء بعيداً عن أعين الأب وانتباه الأم، حتى لا تفقد المفاجأة دهشتها. وهكذا كان يجري الأمر بنجاح تام أو غير تام. ففي إحدى السنوات، أرادت "نور" ذات الأربع سنوات، أن تزيد التمويه حين طلبنا من أمي إذناً بالذهاب إلى البقالة لشراء "الشيبس"، فضللتها -ونحن نهم بالخروج- بالقول: "ماما إحنا مش رايحين نجيبلك هدية عيد الأم!".
على أن "عيد الأم" لم يكن حينذاك، في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، يشغل مكانة تسويقية كالتي يشغلها هذه الأيام. كانت الحياة في بلادنا أبسط من أن يجري الترويج في أسواقها لعروض وخصومات بهذه المناسبة أو تلك، ومن أن تمتلئ الصحف بخيارات هدايا عيد الأم من الأجهزة الكهربائية، والأدوات المنزلية، ومواد العناية الشخصية، والحلي والمجوهرات، والملابس وغيرها. كانت الحياة بسيطة، ويدفعنا الحنين في مثل هذه الذكريات للقول إنها كانت "جميلة"، فهل كانت جميلة حقاً؟ وهل هي أجمل من أيامنا هذه فعلاً؟
لا أدري إن كان أجمل أن نعيش بلا هواتف في معظم البيوت، بينما نعيش اليوم مع هاتف نقال لا يفارق الواحد منا حتى صار جزءاً منه! أو إن كان أجمل ارتباط الحياة في القرى بمواعيد حركة باصات النقل العام، بينما تتيسر اليوم السيارات عند معظم الناس. أو إن كان أجمل أن تنحصر مصادر المعلومات بواحد وطني وواحد أو اثنين من الخارج، بينما يداهمنا تدفق المعلومات اليوم منذ أن نفتح عيوننا صباحاً حتى نغمضها ليلاً. أو إن كان أجمل أن ينحصر مجتمع الواحد منا بجيرانه ومعارفه وأصدقائه وزملائه في العمل، بينما تتيح وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أن تكون لنا علاقات بلا حدود. أو إن كان أجمل الركون إلى البيوت في مساءات الشتاء والصيف، بينما أتاح النمط الاستهلاكي السائد اليوم أماكن ترفيه عديدة، من مطاعم ومقاهٍ ومولات.
الحياة كانت أبسط، لكنها من دون شك لم تكن أسهل. ربما كانت أجمل، لكن جمالها المفترض لم يكن يتمثل بسهولتها، بل بما تنطوي عليه من استغناء عن كل هذا الذي نلهث وراءه اليوم، ونظل نشعر تجاهه بالفقد والحاجة! كانت الحياة أبسط، لأننا لم نكن نفكر باقتناء ما يلزم وما لا يلزم، فلا نحمل هم الحصول عليه.
ترى، أي ذكريات عن الطفولة سيحملها أولادنا في مقبل الأيام، وقد تعودوا على أن يحلموا باقتناء الأشياء، وأن تسعى عائلاتهم لتحقيق أحلامهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً؟ مما لا شك فيه أن انتقالنا، نحن الذين عشنا زمن الاستغناء، إلى زمن الاستهلاك الراهن، ينطوي بالنسبة لنا على متعة غير مصرّح بها، يستجلبها ذلك الشعور بتوفر، وإمكانية اقتناء، أشياء كثيرة قياساً إلى الزمن السابق. وهو شعور لن يلمسه أولادنا، لأنهم لم يعرفوا الندرة ولم يخبروا الاستغناء.
خيارات هدايا عيد الأم، والعروض والخصومات التي ترافقها، كما هدايا المناسبات الأخرى التي كانت موجودة أو جرى اختراعها لاحقاً، تنبهنا أين كنا، وأين صرنا، وأننا حقاً عشنا زمانين مختلفين!