تعاليل شعبية
لدى الناس دائماً شغف كبير بمغادرة أدوارهم لتقمّص أدوار جديدة.
الكل يحب مشاهدة المسلسل، لكن الكل أيضا يتساءل: لماذا ليس هو بطل المسلسل؟
الكل يخطط أن يكون نجماً، وأن يجلب بقصصه انتباه الجالسين في بيت العزاء طيلة الوقت، أو الراقصين في حفلة العرس طيلة السهرة
فتجد بعض الناس يصرّون أن يكونوا أبطال الحكاية لا أن يكونوا مستمعين لها، وهي غالباً ليست ناجمة عن رغبة حقيقيّة بالإبداع، لكنه فقط جشع النجوميّة، حين ترفض غرائزنا فكرة التعلم، إذ يستهوينا بنهم فائق هوس الأستذة!
فإذا كنت شاعرا، فالكل جالسون ينصتون بانتباه، لكنهم كلهم سارحون في فكرة واحدة: لماذا أنت الذي على المنصة وليس هو؟
وإن تورطت في أمسية، ستجد جمعا من الناس يستمعون لك، ولكن بفارغ الصبر، إذ سيسارع أكثر من نصفهم بعد انتهائك مباشرة من القراءة، ليعرضوا عليك قصائدهم، ويسألونك عن ناشر جيد، ويستطردون مع ابتسامة خبيثة، بأنك قرأت قبل قليل قصيدتين تشبهان تماما واحدة كتبوها وأخرى كانوا يفكرون فيها للتو!
وإن كنت صحفيا، فكلهم كتاب مقالات، ويسألونك كم ستدفع لهم إن تكرموا بنشر مقالاتهم عندك!
وهكذا.....
فإذا كنت مطربا أصروا على تجريب حنجرتهم لديك، وإن كنت تشكيليا فهم أصحاب مدرسة حديثة في اللون، وإن كنت محرر صفحة طبيّة فهم أطباء، وإن كنت سائقا فهم خبراء في توفير الوقود، وإن فتحت دكانا استكثروا على أنفسهم أن يشتروا من عندك، وسارعوا إلى فتح دكان بجانبك يبيع بأسعار أرخص!
وإن قصصت على أحدهم حادثة صارت معك، بادرك فورا بالقول: لا لا هاي مو قصة أبدا! اسمع شو صار معي!
هذا إن لم يقلل من شأن حادثتك صارخا: لا! هذا ولا شي ... هاي مسخرة بالنسبة لقصتي! ويروح يُسمعك أي حادثة تؤكد أنه ليس مستعدا أبدا لأن يكون مجرد متفرج أو مستمع، ولا يليق بكرامته الشخصيّة، أو بسمعة العائلة أن لا يكون طرفا في أي حادثة على مستوى عمله أو منطقة سكنه أو على مستوى البلد!
فهو دائما لديه مصادره العليا التي زودته بخفايا رفع سعر الإسمنت، ويعرف الأسماء الرباعيّة الكاملة لكل أعضاء الحكومة المقبلة، ويؤكد أن نتيجة المباراة مباعة، ويتقمص هيئة الخبير وهو يؤكد: اللحم الذي أكلناه في العرس مستحيل يكون بلديّ!
الكل خبراء ومطلعون وعارفون وفقهاء؛ فالحلاق مستعد لتزويدك بمسودات أصلية للخطة التي يعتمدها المنتخب الألماني في كأس العالم، والسائق يصف لك علاجا شافيا خلال 3 أيام لسرطان الدم، ويقسم أن صدام حسين ركب معه قبل أسبوع إلى صويلح وحلفه: يا أخوي يا أبو محمد ما تجيب سيرة!
.....
الحكاية تتلخص بأن أحدا غير مستعد لأن يكون متلقيا، والجميع مهووس بإنتاج الحكاية، وذلك استنادا لموروث عظيم مفاده: ليش هو ابن أبو مجدي أحسن مني ؟ !
واستنادا لذات الموروث لا يعترف أحد بتفوق أحد، وكثيرون يغمضون أعينهم ويغلقون آذانهم رغم أنهم يرون جيدا، ويسمعون بشكل أفضل، لكنهم فيما يخص الآخرين يعطلون كل حواس الاستقبال ويشغلون فقط رغبتهم النهمة والشرهة جدا لإنتاج الحكايا والقصص ووووو....
وهي مفارقة موجعة ومحزنة، أن يجري التعامل مع الحياة الحديثة بموروث قبليّ يستحضر ممارسات الجدات بخصوص الغيرة والحسد، ويستنهض المخزون المتخلف والغزير من الردح والتشهير ولكن بربطة عنق زاهية وعطر فرنسيّ!