هزة الـ"ديجيتال": متى يتحرك الإعلام العربي؟
حملت الأخبار قبل أيام قرار مؤسسة الإندبندنت البريطانية بوقف إصداراتها الصحفية الورقية؛ "ذي إندبندنت" و"إندبندنت أون صنداي"، وحصر إطلالتها بنسخة رقمية تحاكي التحول الذي يعصف بصناعه الصحافة التقليدية، لمجاراة القرّاء الجدد المتابعين للصحف والفضائيات عبر تطبيقات الهواتف الذكية والإنترنت.
وبذلك، تغيب أول صحيفة قومية بريطانية، بعد إقرارها بأنها ضحية ثورة الإنترنت وتطبيقاتها التي غيرت، للأبد، اقتصادات الصحف وقواعد النشر حول العالم. لكن "الإندبندنت" لم تستسلم للهزيمة نهائيا، بل دخلت في طور التحول تماما، كما تتغير طريقة مشاهدتنا للتلفزيون يوما بعد يوم عبرالأجهزة اللوحية والهواتف الذكية.
قرار "الإندبندنت" قد يشجع غيرها من مؤسسات عريقة، بنت صدقيتها وتميزها عبر مطبوعاتها الورقية على مدار قرنين تقريبا، على اتخاذ خطوة مماثلة، بخاصة وأن توقعات خبراء صناعة الإعلام تشير إلى اختفاء غالبية الصحف الورقية بشكلها الحالي خلال 25 عاما.
بعد 30 عاما من مراكمة الخسائر، لم تعد هناك فرصة لنجاة مؤسسة "الإندبندنت" من خلال الاعتماد على مبيعات 41 ألف نسخة يوميا (ذي إندبندنت) و90 ألف نسخة أسبوعيا (إندبندنت أون صنداي)، في زمن تدفق سيل المعلومات والأخبار المجانية عبر الإنترنت؛ فكان عليها وقف نزف الخسائر؛ 65 مليون جنيه استرليني في السنوات الماضية، نتيجة ارتفاع كلف الطباعة والتشغيل، وضمور حجم سوق الإعلانات التقليدية، وتغير سلوكات القراء من أجيال الـ"أنالوغ" والـ"ديجيتال".
تزامن هبوط مبيعات النسخة الورقية مع زيادة متابعي موقع الصحيفة الإلكتروني، بعد "نفضه" العام 2008. وبات يحقق أرباحا نتيجة استقطاب الإعلانات، بعد أن تجاوز عدد زواره 58 مليون زائر حصري أسبوعيا، مع أن عدد المتصفحين يقل عن زوار مواقع مؤسسات مماثلة ومنافسة، مثل "الديلي ميل" و"الغارديان" و"الديلي تلغراف" و"التايمز" و"فايننشال تايمز".
وبحسب مالك "الإندبندنت" الأخير، لم يتبق أمام المؤسسة سوى خوض غمار هذه المقامرة المفتوحة على احتمالات شتّى، لكن وفق خطة مدروسة لاجتذاب ملايين الزوار، عبر المحافظة على صدقية الصحيفة وتقديم محتوى متميز وجريء -على شكل صور وفيديوهات وأخبار سريعة- قائم على نقل هموم الناس بعيدا عن جدلية الصراعات السياسية والأجندات. وفي صميم فلسفة "الإندبندنت"، كما يضيف مالكها، محاسبة المسؤولين عن أفعالهم، ونقل صوت جميع شرائح المجتمع. كما تفكر المؤسسة في فرض رسوم على النسخة الرقمية التي تحمّل عبر تطبيقات الهاتف الذكي، وتعزيز تغطيتها الإخبارية في العمق من خلال مكاتب للصحيفة الرقمية في الولايات المتحدة والشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، إلى جانب الاستثمار في تطوير تطبيقات رقمية جديدة، ونقل مهارات من تبقّى من الأسماء اللامعة من كتاب وصحفيين، مثل روبرت فيسك، إلى العصر الرقمي.
إذن، لن تتخلّى "الإندبندنت" الرقمية عن تميّز محتواها الإعلامي، أو قيمها وثوابتها المهنية. بل هي تراهن على إرثها وسمعتها التحريرية لكسب قرّاء المستقبل، لكن عبر منصة رقمية سريعة التواصل والتفاعل/ متعددة الوسائط والواجهات، تقدم أخبارا طازجة وتحليلات بالعمق في قالب تفاعلي يجمع بين سلاسة التناول وعمق المحتوى، بما يتماشى مع تطور وسائل التواصل، والاستخدام المتصاعد للأجهزة الجوالة والحواسيب اللوحية.
قرار هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية "بي. بي. سي" بإغلاق قناتها الثالثة والاكتفاء ببث محتواها "أونلاين"، ربما وفّر حافزا إضافيا للقائمين على "الإندبندنت" بالإبحار رقميا. قبل ذلك، أدهش تلفزيون "فايس" (Vice) متابعيه عبر الإنترنت. ولديه اليوم أكثر من خمسة ملايين مشاهد بالاعتماد على محتوى رقمي متعدد الوسائط، وكادر غالبيته شبابية.
خارج بريطانيا أيضا، تتبلور نماذج رقمية عالمية جديدة، بلغات متعددة. وقد نجحت إلى حد كبير في كسب متابعين جدد عبر التركيز على تحديد الجمهور المستهدف، ثم تقديم وجبات إعلامية ذات صلة بهذه الشرائح. فموقع "هفنغتون بوست" الأميركي الناطق بالإنجليزية، أطلق أخيرا نسخته العربية، وله مكتب إقليمي في تركيا. وهناك موقع "بزفيد" (Buzzfeed) الشبابي الأكثر متابعة حول العالم لهذه الفئة العمرية. كما يصعد نجم موقع "بوليتيكو" (Politico) يوما بعد يوم. وقد أصبح موقع "نيويورك تايمز" الإلكتروني أيضا أكثر استقطابا للإعلان من النسخة الورقية، مع أنهما يتشاركان في بعض المحتوى الإخباري ومقالات الرأي.
وإقليميا، طورت شبكة "الجزيرة" خدمة "إيه. جيه. بلس" (+AJ) الرقمية، التي حظيت أشرطتها بأكثر من 1.2 مليار مشاهد منذ إطلاقها في أيلول (سبتمبر) الماضي.
في ظل هذه المتغيرات، لماذا لا يغامر مالك صحيفة "الإندبندنت"، الذي لم يعد لديه الكثير ليخسره بعد زلزال الخسائر المتراكمة؟
وقد تنتشر عدوى "الإندبندنت" إلى مطابخ مؤسسات إعلامية في العالم العربي، الذي لحق أخيرا بـ"خريف الصحافة" المتلبد في الأفق الأميركي والأوروبي منذ عقد، من دون أن تتحسب الغالبية في المنطقة لما هو قادم. إذ لم يكترث العديد من رؤساء التحرير لثورة الإنترنت وتطبيقات الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتقليعة "المواطن الصحفي"، التي غيّرت إلى الأبد وجه الصحافة الورقية باتجاه الفضاء الرقمي.
لكن خلال العام 2015، تغير الكثير عربيا. في تونس، تعاني غالبية المؤسسات الصحفية (خاصة وعامة) من مشاكل مالية جمّة.
وفي الأردن، أغلقت قبل أشهر صحيفة "العرب اليوم" بعد عام من الصعوبات المالية. ورئيس مجلس إدارة المؤسسة التي تنشر صحيفة "الدستور" يعمل جاهدا لإنقاذ وضعها المالي والتحريري. والمؤسسة الصحفية الأردنية؛ ناشرة "الرأي" و"الجوردان تايمز"، تتعافى ببطء، إنما ما تزال تعاني من ديون بعد أن كانت من أغنى المؤسسات.
وفي مصر، غالبية الصحف الخاصة والقومية تخسر وتبحث عن خشبة خلاص. ولن ينفعها رفع أسعار النسخ الورقية كلما حشرت في الزاوية.
في لبنان، حيث تقهقرت سوق الإعلان بنسبة 60 % منذ العام 2011، تتعثر صحف "السفير" و"النهار" و"المستقبل" و"اللواء"، وبعضها لم يدفع معاشات موظفيه منذ أشهر. كما أن المحطات التلفزيونية هناك ليست أفضل حالا.
وفي قطر، أعلنت شبكة "الجزيرة" التي تمول مباشرة من الحكومة، عن نيتها الاستغناء عن 500 موظف إضافي، في خطوة وضعتها ضمن مواكبة "التطور المتسارع" إعلاميا في بلد فقد جزءا من دخله بسبب انخفاض أسعار الطاقة. وصحف قطر الحكومية والخاصة، التي ما تزال تستخدم "ورق طباعة نخب أول"، اتخذت سلسلة إجراءات هدفها تخفيض النفقات وشد الأحزمة.
واضح أن صناعة الإعلام التقليدي تحتضر. الصحف الورقية تحديدا أصبحت قضية الماضي مقابل جيل اليوم والمستقبل. ولن تحتاج العدوى إلى زمن طويل لتنتقل لمؤسساتنا العربية، وبخاصة التقليدية. مع أن من انتصف به العمر واعتاد تصفح صحيفته المفضلة صباح كل يوم، سيشعر بالضياع من دونها. ولن يكتفي بمطالعة النسخة الالكترونية، حتى لو كان الموقع للمؤسسة ذاتها ويعتمدها مادة أساسية.
بالنسبة لجيل المستقبل المدمن على التكنولوجيا الرقمية، باتت الصحف الورقية جزءا من الماضي؛ ديناصورا منقرضا.
لكن بعد غياب "الإندبندنت" بنسختها الورقية، هل سيختفي تنوع الرأي والخبر والموقف السياسي عن متابعها البريطاني أو العالمي؟ بالتأكيد لا. فما تزال هناك صحف ورقية ومؤسسات إعلامية تلفزيونية وإلكترونية متعددة الوسائط، تعكس التيارات السياسية والثقافية المحافظة واليمينية واليسارية. وهناك فضائيات ومواقع إلكترونية تحمل أخبارا منوعة، فيما تنطلق صحف جديدة بنسختها الرقمية. وهناك هرطقات وأخبار يطالعها متصفح "فيسبوك" و"تويتر" و"غوغل"، أكبر المنافسين للإعلام التقليدي؛ وهي تنشر أخبار الآخرين من دون مشاركتهم في أرباحها.
الشيء الوحيد الذي يجب أن لا يموت مع تغير وسيطة الإعلام، هو رسالة "السلطة الرابعة". على الصحفيين، سواء كانوا "أنالوج" أو "ديجيتال" (رقمي)، الاستمرار في البحث عن "خبطات" تهم الرأي العام، وتكشف فسادا وإخفاقا في تحقيق العدالة؛ كما تكشف ممارسات المسؤولين من دون الإخلال بشرف المهنة والمهنية والموضوعية في التعاطي مع الرأي والرأي الآخر.
وحدها هذه الرسالة ستميز مؤسساتهم عن غيرها، وستجلب اهتمام الجمهور المستهدف.
الإصرار على بقاء الإعلام الجيد بأشكاله وتنوعاته كافة هو الضمان لاستمرار رسالة الإعلام في البيئة الرقمية، فضلا عن مقاومة الاحتكارات وسيطرة أجندات الممولين على محتوى الإعلام الرقمي الجديد، والقدرة على استقطاب إعلانات رقمية.