ثقافة العبور
في الأردن، أكثر من غيره، يمكن أن نلاحظ كيف تساهم التفاعلات السياسية المتعددة المصادر في تشكيل الثقافة اليومية للناس؛ وبالتالي كيف تنعكس السياسة على نمط الحياة وعلى قرارات الأفراد التي قد لا يكون للسياسة علاقة بها من قريب أو بعيد. لكن الذي يحدث أن المجتمع القلق على المستقبل وعلى القادم، ويحيا مشهد الفوضى الإقليمية وحالة الطوارئ المزمنة، أصبح مستهلكا نهما للسياسة، في دولة فيها مؤسسات سياسية عريقة، لكنها لم تنشئ المجتمع على تقاليد سياسية واضحة. لذا نلاحظ حساسية المجتمع ونخبه نحو أي فكرة جديدة، بحيث يحتاج هضمها إلى زمن طويل ومعاناة.
يشهد المجتمع الأردني مظاهر متعددة لثقافة انتقالية ثقيلة الخطى. وقد يؤدي استمرار المرحلة الانتقالية لفترة أطول إلى تحول هذه المظاهر إلى سمات يصعب التخلص منها. وعلى كل الأحوال، فإن ثقافة المراحل الانتقالية قد تكون ظاهرة صحية، تشير إلى حيوية المجتمع ووجود الإرادة والقدرة على الدخول في التغيير؛ لكنها تتحول إلى مشكلة إذا طالت وامتدت لأكثر من ثلاثة عقود، أي حينما تصبح لهذه الثقافة قوة التوريث. فالمرحلة الانتقالية تسودها ثقافة تسمى "ثقافة العبور"، وهي تتسم بعدم اليقين والشك والخوف والتناقضات الحادة.
علينا الاعتراف بأن مظاهر الصراع داخل الثقافة المجتمعية قد ازدادت مع انعكاس تأثير الأزمات الاقتصادية والسياسية. والصراع يتعدى التناقض نحو الاشتباك الذي يبرز على خطوط عديدة؛ بين التقليدية والتحديث، بين الثقافة الأبوية والثقافة الفردية، بين التعصب والمزيد من التطرف.
في مرحلة الانتقال الطويل، اتسم المجتمع الأردني بالانفتاح والقدرات الاتصالية الواضحة، فجاء الأردنيون أكثر شعوب المنطقة حضورا وإنتاجا في التكنولوجيا الاتصالية والإعلامية الجديدة، ما وفر قنوات إعادة تشكيل المجال العام، وازدادت مساحة الحوار، في الوقت الذي منحت فيه هذه القدرات الاتصالية جماعات صغيرة منابر وحضورا أكبر من حجمها الطبيعي، ما أدى إلى المبالغة في إبراز بعض القضايا والأزمات، وفي خلق الأزمات أو توظيف هذه القدرات في الأجندات السياسية.
من جهة أخرى، قد تحمل ثقافة العبور سمات متناقضة ومربكة. فالمجتمعات المحلية تمر في هذا الوقت في مرحلة انكشاف؛ ليس اقتصاديا فحسب بل أيضا سياسيا-ثقافيا. إذ إن هذه المجتمعات تنسحب ببطء من تقاليدها الأبوية من دون بدائل، ومن دون دعم سياسي-ثقافي، وتنفتح على عالم لم تألفه من دون تهيئة حقيقية. هذا الانسحاب، ووسط هذه الظروف، أفرز سلسلة من الخطوط الصراعية المتقاطعة التي تبدو أحيانا صعبة على الفهم، وتبرز أحيانا على شكل عنف من المجتمع على المجتمع، وأحيانا على شكل عنف موجه للدولة، وأحيانا يأخذ شكل الرفض وفقدان الثقة.
علينا الاعتراف بأننا نشهد ثقافة قلقة وخائفة على المستقبل، وسط حالة التردد وعدم الاستقرار والأزمة المستمرة المولدة لأزمات لا تتوقف؛ حيث يتصاعد الشعور الاجتماعي بالقلق والخوف على المستقبل وعدم الرضا. وفي الوقت الذي ازداد فيه قبول المجتمع الأردني لحقيقة التعدد، وازداد إدراكه بأن التنوّع والتعدد أحد المصادر الأساسية لقوة وثراء المجتمع، تعمل المرحلة الانتقالية الطويلة على ازدياد الهواجس والخوف.