مفاوضات لإنكار وجود الشعب السوري
بين كل المنخرطين والمتورطين في الصراع السوري، لا يبدو من طرف أكثر إقراراً من روسيا بالدور المؤثر ولربما الحاسم للهيئة السورية العليا للمفاوضات في جولات جنيف الساعية إلى إنهاء هذا الصراع. وليس يشهد على هذا الأمر -رغم ما في ذلك من بؤس- إلا العودة إلى ارتكاب مجازر واسعة بحق المدنيين السوريين مباشرة عقب تعليق "الهيئة" مشاركتها في مفاوضات جنيف، وهو القرار الذي جاء أصلاً رداً على خروقات نظام الأسد وروسيا للهدنة منذ إعلانها، والتي تضمنت بدورها أيضاً مجازر استهدفت تجمعات مدنية شعبية.
فإذا كانت الهيئة العليا المفاوضات لا تمثل، بحسب ممثل الأسد في جنيف، الشعب السوري، فلماذا التفاوض معها أصلاً؟! وإذا كانت الهيئة العليا، بحسب موسكو، ليست إلا فريقاً من فرق المعارضة الأخرى؛ "القاهرة" و"موسكو" و"الأستانة" و"حميميم" (نسبة للقاعدة العسكرية الروسية التي تشكلت فيها هذه الأخيرة)، فلماذا، إذن، تتوقف الهدنة على مشاركة "الهيئة" في المفاوضات، بحيث يتم الإجهاز على الهدنة رغم استمرار تواجد وفود "المعارضة" الأخرى في جنيف، وتواصل "تفاوضها" مع روسيا (والنظام)؟
بعد كل ذلك، لا بد من العودة إلى السؤال الأهم، وإن لم يكن جديداً: لماذا لا تحاول موسكو إضعاف "الهيئة"، أو "إثبات" عدم محوريتها، عبر تقوية وفود المعارضة الأخرى المحسوبة على روسيا؛ أي بتعزيز التمثيل الشعبي لهذه الأخيرة، عبر تقديم إنجازات لها، تُعد أبسط حقوق الإنسان السوري، من قبيل إطلاق سراح ولو بضعة آلاف من أصل مئات آلاف المعتقلين في سجون الأسد؛ بلا تهم ولا محاكمات كما جرت العادة على امتداد عقود حكم آل الأسد؟! لاسيما وأن حلفاء الروس من الأكراد قد فرضوا على النظام، قبل يومين، شروط إذعان لوقف إطلاق النار في القامشلي، بحيث يكاد يكون الاتفاق بين دولتين؛ منتصرة ومهزومة، وليس بين مليشيات ونظام يمثل دولة!
طبعاً، يبدو التفسير الأول لإحجام موسكو عن ذلك منذ الأيام الأولى للثورة السورية، هو قناعتها بأن المعارضة المحسوبة عليها (مع التأكيد على أن مثل هذا القول المعمم فيه ظلم شديد لشخصيات معارضة وطنية محترمة ضمن وفدي "القاهرة" و"موسكو" تحديداً) لن يكون لها تأثير حقيقي على الأرض بغض النظر عما يُقدم لها. لكن التفسير الآخر الأكثر منطقية ودقة، هو أن أي معارضة سورية تملك فرصة قبول شعبي لا يمكن أن تقبل بما تريده موسكو -أو تضطر لقبوله إرضاء لإيران- في التسوية النهائية. وخير دليل على ذلك ما خرج به مؤتمر القاهرة الممثل في جنيف اليوم؛ إذ شملت نتائجه، ضمن أمور أخرى، التأكيد على سحب الجنسيات التي مُنحت (لإيرانيين خصوصاً) خلال سنوات الثورة، وإعادة أملاك المواطنين السوريين التي استولي عليها (من قبل إيران أيضاً) خلال الثورة؛ بالاغتصاب أو الترهيب أو التزوير أو التدليس.
في كل بلدان الأرض، بما في ذلك فلسطين المجمع عالمياً على أنها تخضع لاحتلال استيطاني ذي تهديد وجودي، ليس هناك فريق معارضة واحد يمثل كل الشعب. لكن روسيا وإيران، وأتباعهما، تظنان أن بإمكانهما التذاكي واستغلال هذه البدهية الطبيعية لإلغاء الشعب السوري ككل، وشرعنة إطلاق يد مليشيات الأسد الطائفية متعددة الجنسيات في ذبحه.