تفكير بطولي وسلوك انتهازي
"الكراهية الانتقائية فشل. أما الكراهية الشاملة فهي مرض عقلي" (كاثلين تايلور، أستاذة طب الأعصاب وعلم الدواء في جامعة أكسفورد).
برغم أن مفهوم التطرف صار يُفهم تلقائيا على أنه "التطرف الديني"، إلا أنه في هذا المقال يعني التطرف بكل محتوياته؛ الوطني والقومي، واليساري والديني. والحال أن كثيرا من المواقف والأفكار المتطرفة تبدو ظاهرة شاملة ومتفشية في مجتمعاتنا، لكن الملفت أنه يغلب على المتطرفين غير المتدينين أنهم لا يلاحظون الغيبوبة التي يعيشونها. ففي حين يفكرون بإقصائية وشعور بالتعالي والبطولة، فإنهم يعتقدون أنهم ديمقراطيون! والأسوأ من ذلك أنهم، في الواقع، يعيشون حالة من الفصام بين أفكارهم المثالية وبين سلوكهم الانتهازي.
تحتاج ظاهرة "التفكير البطولي والسلوك الانتهازي" إلى توقّف ونقد متكرر؛ فأن يكون السلوك مختلفاً عن التفكير، يعني أن أحدهما خطأ ويجب أن يصحّح. وبالطبع، فإن السلوك البراغماتي سلوك عقلاني، يدل على خطأ التفكير المناقض. وليس المقصود دعوة المتطرفين و"الأبطال لفظياً" إلى سلوك متطرف منسجم مع ما يقولونه، وإنما الدعوة لإعادة النظر في أفكارهم وطريقة تفكيرهم.
الظاهرة خطيرة بالمناسبة، ولا تقل خطورة عن السلوك المتطرف، لأن أصحابها وإن كانوا ليسوا متطرفين، فإنهم في غالب الأحيان، إن لم يكن دائماً، يترفعون عن المشاركة الإيجابية العامة، أو يدخلون في مواقف سياسية واجتماعية منفصلة عن الواقع، ويعتقدون أنهم بسلبيتهم منسجمون مع أنفسهم، لكنهم يعطلون أو يضعفون التأثير الاجتماعي الممكن إنجازه في السياسات والتشريعات واتجاهات الأسواق والحكومة والمجتمعات والأفراد. وهم في الواقع يُدخلون أنفسهم وقطاعاً من الجماهير والمجتمعات في حالة سلبية منفصلة عن الهموم اليومية والنسبية، ليتعلّقوا بالمطلق الأقرب إلى الوهم أو المستحيل.
والخطورة الثانية في الظاهرة، أن كثيراً من دوافع التطرف السياسي والأيديولوجي (النظري) ليست مرتبطة مباشرة بالموقف الفكري المعلن، وإنما مستمدة من الشعور بالظلم أو الميل الى العزلة أو الفشل أو العجز عن الانتماء والمشاركة، أو مشاعر وهمية مَرَضِيّة بالاستعلاء والتميز، أو انتماءات اجتماعية أو دينية فرعية تتغلب على الانتماء الوطني أو الانتماء إلى المكان أو المصالح الاقتصادية والاجتماعية العامة والكبرى، أو عدم القدرة على الربط بين التطلعات الفردية والاتجاهات السياسية والاجتماعية.
وفي أحيان، يكون التطرف غطاء لمصالح فاسدة ومشبوهة، وتحالفات اقتصادية واجتماعية وسياسية تضرّ بمصالح المجتمع، أو تتضمن تجاوزات قانونية وأخلاقية وتهرباً ضريبياً ورشاوى.
هي بطولات وأفكار ومواقف في مبالغتها في التطرف والرفض وفي تناقضها مع السلوك الواقعي، تبعث على الريبة والقلق؛ فعدم الانسجام أو التطرف الانتقائي يؤشر إلى الفشل، إذ يجب أن يكون السلوك والموقف مستمدّين من فكرة أو فلسفة منشئة لهذا السلوك.
لكن أسوأ ما في الظاهرة، أنها يمكن أن تنتج انسجاماً وتطابقاً بين الفكر والتطبيق، وذلك الانسجام ليس سوى مرض عقلي خطير على الذات والسلامة العامة والمجتمعات والعالم. فالذين مضوا بجدية وصدق في متابعة مقولاتهم المتطرفة والمستعلية، ألحقوا بأنفسهم وبالعالم كارثة يصعب نسيانها؛ النازية والفاشية والقاعدة وداعش... وغيرها كثير، دمرت دولاً وشعوباً، ومنحت "مجانين أذكياء" هيمنة وفرصا بلا قيود لممارسة الجنون!
بالطبع، هناك ضرورات للمقاومة والدفاع عن الأوطان والعمل الفكري والاقتصادي والسياسي المستمد من أفكار ومشاعر قومية وإقليمية، والنضال لأجل العدالة الاجتماعية، والعمل لأجل الأفكار والقيم الدينية واستحضارها لأجل الارتقاء الروحي بالفرد أو للإصلاح الاجتماعي والسياسي. لكنها في تفاعلها مع السلطة والصراع السياسي، تتحوّل إلى قوة تدميرية لم تفد إلا الشر والشيطان!
كيف نمنح السياسة القيم والدوافع الجميلة والروحية؟ كيف نحافظ عليها نسبية وعدم يقينية وقابلة للتصحيح والنقد والمراجعة؟ كيف لا نتركها تنزلق إلى الاستبداد والجنون والانتهازية