الثقافة السياسية و"الربيع العربي"
لم تطل تداعيات "الربيع العربي" الأنظمة السياسية فقط، وإنما أيضاً الأحزاب والحركات الاجتماعية. بعض الأنظمة العربية التي اختارت طريق القمع لطموحات شعوبها، إما انهارت أو أدخلت بلدانها وشعوبها في صراعات دموية أدت إلى تدمير هذه الدول وتمزيق شعوبها. عدد قليل من الدول العربية تعامل مع طموحات شعوبها، وقامت بإجراء إصلاحات سياسية مكّنتها من العبور إلى شط الأمان.
القضية الأساسية التي تجب الإشارة إليها، هي أن هناك ثقافة سياسية خاصة بالأنظمة والدول العربية التي يمكن أن تفسر الفروقات في التعامل مع التحديات السياسية. بعض الدول تميزت تاريخياً بثقافة سياسية عنيفة، مثل العراق وسورية وليبيا، وإلى حد ما مصر. وبعضها الآخر تميزت ثقافتها السياسية بالاعتدال والسلمية، مثل الأردن والمغرب وتونس.
إذن، الثقافة السياسية للدولة والمجتمع كانت من أهم العوامل التي حدّدت مخرجات "الربيع العربي" في كل دولة على حدة.
الأطروحة نفسها يمكن استخدامها في تفسير ما حدث للحركات السياسية في تعاملها مع "الربيع العربي"، والمصير الذي واجهته هذه الحركات نتيجة لذلك، وأهمها حركة الإخوان المسلمين في العالم العربي.
حركة الإخوان المسلمين، بوصفها حركة عقائدية شمولية، وضعت أمام التحدّي نفسه الذي واجهته الأنظمة التي تعمل في كنفها، وكان عليها اختيار كيفية التعامل مع التحديات الديمقراطية، والدولة المدنية، وحقوق المرأة، وغيرها.
"الإخوان" في مصر وسورية ذهبوا لمواجهة (قد يقول البعض إنها فرضت عليهم) لم تكن قدراً، وإنما كانت خيارا متاحا ضمن خيارات أخرى.
بينما نلاحظ أن "الإخوان" في تونس والأردن وغيرهما من الدول، لم يلجأوا للمواجهة. ففي الحالة التونسية، تقبلت الحركة التحوّل السياسي وقبلت بالحلول والمبادئ التي مثلت طموحات الشعب التونسي، وتحوّلت إلى حزب سياسي فاعل، ولكنه ليس مهيمناً، وذهبت طموحات وإقامة دولة إسلامية في تونس مع "الربيع العربي".
و"الإخوان" في الأردن لم يلجأوا للمواجهة أيضاً، وقد لا يكون ذلك عائداً فقط لحكمة بعض قياداتهم، وإنما لإدراكهم خطورة المواجهة أيضاً. لكن "الإخوان" في الأردن لم تستطع استيعاب الأهمية التاريخية لـ"الربيع العربي"، ولم تقم بإصلاح نفسها بالتكيف مع التحوّلات السياسية والاقتصادية محليا.
عدم قدرة "الإخوان" على إصلاح نفسها أدى الى تصدعها من الداخل، وذلك لإدراك قوى سياسية وفكرية داخل الحركة لضرورة الإصلاح السياسي، والقضايا التي كان يجب أن تعالجها هي تحويل "الجماعة" لحركة وطنية، والفصل بين العمل السياسي والدعوي، وفك الارتباطات الخارجية.
النتيجة للعجز الداخلي عن الاصلاح، هي الانشطارات التي حصلت، وقد أصبح لدينا جماعتان: واحدة مرخصة، وأخرى ليست مرخصة. وهناك احتمال أن يكون لدينا ثلاثة أحزاب تخرج من رحم "الإخوان المسلمين" و"حزب جبهة العمل الإسلامي" والحزب الذي أطلقته مبادرة "زمزم"، والحزب الذي تعتزم تأسيسه مجموعة الحكماء في "الإخوان" كما أعلن عن ذلك حمزة منصور.
بالرغم من أن "إخوان الأردن" لم تقم بإصلاح ذاتها، إلاّ أنها تفاعلت مع تحدياتها بطريقة سلمية، ولم تلجأ للعنف داخلياً كما لم تلجأ للعنف الجماعات التي خرجت من الجماعة.
الثقافة السياسية عامل مهم تم إغفاله في تفسير التحولات السياسية التي حصلت في العالم العربي في السنوات الماضية، سواء في تفسير سلوكيات الدول والأنظمة نفسها، أو في تفسير سلوكيات الحركات السياسية، وبخاصة الإخوان المسلمين؛ الثقافة السياسية التي تتميز بها الدولة، تطال كافة مستويات الدولة والمجتمع والأحزاب السياسية. والثقافة السلمية ميزة جنبت الدولة والمجتمع الدخول في صراعات لا تحمد عقباها.