التنمية وتحولات العطش
تنمو أزمة المياه في محافظات الجنوب صيفا بعد صيف، ويبدو أن هذا الصيف يشير إلى موجات عطش غير مسبوق، المسألة المهمة لا تبدو في الإشكالية التقليدية التي تعاني منها كل المحافظات في كل صيف في عدالة توزيع المياه عبر شبكة الأنابيب العامة، بل المسألة الحقيقية في الوعود والمخططات التي تحدثت عنها الحكومات منذ خمس سنوات حينما بدأ تنفيذ مشروع نقل مياه حوض الديسة من البادية الجنوبية نحو العاصمة وغيرها، والتي أكدت حماية حصة محافظات الجنوب في هذا الحوض المائي الذي يمتد في أراضيها، حيث ذهبت التصريحات الرسمية في ذلك الوقت إلى وجود خطط لمد أنابيب فرعية سيتم تثبيتها وتوزع على المحافظات الثلاث (معان والطفيلة والكرك) من الأنبوب الرئيسي الذي يمضي نحو شمال البلاد وهو الأمر الذي لم يتحقق.
تعتمد محافظات الجنوب على مصادر محلية محدودة للمياه، ورغم أن تلك المحافظات لم تكن قبل سنوات تعاني من ندرة مياه الشرب، إلا اننا اليوم أمام مفارقة قاسية تبدو في أن المشكلة انتقلت من العاصمة التي يتراكم فيها نحو 40 % من السكان إلى محافظات الجنوب التي لا يزيد سكانها على 12 % من سكان المملكة، في حين استطاع المشروع الذي كلف نحو مليار دولار رفع حصة الفرد إلى 190 لترا مقابل 145 لترا في السابق، فيما لا أحد يخبرنا ماهي حصة الفرد في محافظات الجنوب من المياه قبل خمس سنوات مقابل ما هي عليه اليوم.
المشروع مصمم على أساس تزويد معظم محافظات المملكة بمياه بجودة عالية، تبدأ بالضخ إلى عمان والزرقاء والمفرق وإربد، وفي مرحلة ثانية إلى محافظتي جرش وعجلون، وفي مرحلة ثالثة إلى محافظات مأدبا والكرك والطفيلة ومعان، ولكن يبدو إن المفاجآت الإقليمية قد أوقفت هذا المخطط وعلى رأسها أزمة اللاجئين السوريين، التي جعلت الأردن يجد أنه ملزم إنسانيا وأخلاقيا أن يوفر المياه لنحو مليون وثلاثمائة ألف لاجئ معظمهم يتركزون في محافظات الشمال.
في التاريخ تُعمر المجتمعات وتنشأ الحضارات حول مصادر المياه، وما تزال مصادر المياه والطاقة وعناصر الإنتاج الأولية هي المصادر الأساسية لقيام التنمية عليها وحولها، وليس باستنزافها، والمياه تقدم المثال الأوضح للأثمان التي دفعها الأردن نتيجة للصراعات الإقليمية التي لا تتوقف.
كان من المؤمل أن يقود مشروع مياه الديسة إلى إضفاء زخم جديد للتنمية المحلية سواء في محافظات الجنوب أو الشمال وتحديدا في محافظات الجنوب، كنا نتصور مشروعات إنتاجية جديدة رافدة للحياة على طول الخط الناقل، وكنا نتصور مجتمعات عمرانية جديدة تنمو، إلا أن لا شيء تحقق، بل للأسف تراجعت حصة المواطن الأردني من المياه في المحافظات وازداد المشهد تعقيدا.
يقدم الأردن تاريخيا ومعاصرا نموذجا فذا في إدارة المياه، إنها إدارة الندرة التي بدأها الأنباط قبل ألفي عام وتحاول الدولة الأردنية المعاصرة استئنافها، لكن المسكوت عنه حجم الآثار التي تركها التدفق الهائل للاجئين وتضاعف أعداد السكان خلال نحو عشر سنوات والذي ستمتد آثاره تضرب عميقا في بنى المجتمع لعقود طويلة.