صافوط (14)
في يوم عيد ميلادي التاسع، بالضبط، ولد أخي زيد. لذا، واعتباراً من العام 1983، لم يعد احتفال العائلة بعيد الميلاد في اليوم العاشر من الشهر التاسع من كل عام، حكراً عليّ وحدي!
زيد كان الأول من بين أفراد العائلة الذي يولد في صافوط، ثم تبعته "إيمان" بعدها بعامين، لكنه فاقها بأن قضى السنين الثلاث الأولى من عمره في قريتنا الوادعة، قبل العودة إلى العقبة، حظي خلالها بكثير من الصور الفوتوغرافية المدهشة؛ تارة وهو يركل الكرة، وأخرى وهو يسف التراب، وثالثة وهو محمول بين ذراعي أخيه الأكبر، وقد تصديت لهذه المهمة بفرح غامر! والحقيقة أنني بدأت أشعر بواجبات "الأخ الأكبر" بشكل أعمق مع ميلاد زيد، رغم أنني كنت قبله أخاً أكبر كذلك، لأخ يصغرني بعامين (رامي)، وأخت تصغرني بستة أعوام (نور).
من إمارات ذلك الشعور، أنني حلمتُ قبل ميلاده بأيام، أن أمي أنجبت ولداً سميناه "عطا". غير أنني لم أرو لها ذلك الحلم إلا بعد فترة من اختيار الاسم الذي اقترحته عمتي فاطمة. يومها ابتسمت أمي قائلة إنني لو رويت الحلم، لأسمت المولود "عطا" فعلاً، وأظنها كانت تمزح.
في يوم ميلاد زيد، حظيتُ بأن أذِنَ لي أبي بالجلوس في المقعد الأمامي من السيارة، المخصص لوالدتي في العادة، بينما كنا نتجه إلى جبل الحسين لزيارتها والطفل الجديد في المستشفى. سألتُ أبي بفضول شديد ما إذا كان الصغير قد ولد بعد منتصف الليل أم قبله، وما إذا كان ذلك يعني أن ميلاده سيكون في العاشر من أيلول أم في التاسع منه. رد أبي مبتسماً ومطمئناً بأنه سيكون في نفس يوم عيد ميلادي، ولعله لاحظ أنني ساعتها استرخيتُ على المقعد بسعادة غامرة!
وجرياً على عادة كانت دارجة، كان على المولود الجديد أن يحضر معه هدية لأخيه أو أخته الذي ظل حتى ساعة ميلاده أصغر أطفال العائلة. هكذا، أحضر زيد هدية إلى نور، لكنها وهي العاقلة منذ طفولتها، لم تأبه كثيراً بأن تحظى بهدية كي يكون أخوها الجديد مدللاً ومحبوباً عندها، في حالة استثنائية عن استقبال زيد لتاليته إيمان، ثم استقبال إيمان للصغرى هدى.
مع مرور السنين، مارستُ دور الأخ الأكبر بحرفية أكثر. كان عليّ مثلاً، بالشراكة مع أخي رامي، أن أشغل فترات العطل الصيفية بما هو مسلٍّ وممتع، لي ولهم، بخاصة بعد عودتنا إلى العقبة التي لم نجد فيها فضاءً للعب خارج البيت، كما تعودنا أن نفعل في صافوط.
في العقبة، سكنّا بيتاً ذا فناء خارجي، محاط بسور، يشبه معظم بيوت العقبة في تلك المرحلة من ثمانينيات القرن العشرين، قبل أن تغزوها البنايات السكنية ذات الطوابق المتعددة. الفناء الخارجي كان يحيط البيت من ثلاث جهات، بينما يفصل سور عالٍ بيتنا عن بيت الجيران من الجهة الرابعة. في هذه المساحات الخارجية، زخرت بيوت العقبة بشجر الجوافة والمانجا والحمضيات، التي تعيش في الأجواء الحارة والتربة الرملية، فكان في بيتنا شجرتا جوافة، وشجرتا ليمون، وشجرة كلمنتينا، ودالية عنب، وحوض للبطاطا الحلوة، وغيرها. وبفضل كل تلك الإمكانات، اكتفيت وإخوتي باللعب داخل البيت وفي ساحتيه الأمامية والخلفية.
هكذا، اخترعنا ألعاباً جديدة تضمنت تعديلات على كرة القدم، تناسب ما هو متوفر من مساحات؛ وتعديلات على استعمالات "القلول" وألعابها الدارجة، كأن نقوم بتسديدها على "الجورة" بالقدم لا باليد. وقمنا بتأليف مسرحيات وتمثيلها وتصميم ديكوراتها مما هو متوفر من مقتنيات البيت، مقلّدين تلك المسرحيات الكوميدية المصرية المدهشة التي ذاع صيتها في الثمانينيات، وما تزال الأكثر إضحاكاً حتى اليوم.
المشكلة التي واجتهنا، أن "نور" صارت مع مرور السنوات تتجنب ألعاب الصبيان، فيما كان زيد ما يزال أصغر من أن يملأ الفراغ الذي خلّفه انشغالها بألعاب البنات!