"الوطن" !
من هو ( الوطن ) ؟
وهل ستعرفهُ لو التقيتَ بهِ شخصياً أو صادفته في المصعد ؟
وهل هو حقيقة تمشي على الأرض أم هو ضرورة “ نوستالجية” كخبز الامهات وشايهنّ ؟
الوطن برأيي لا يلزم – كمفهوم – للدول والمجتمعات الناجزة. فهو اسم من أسماء الحنين، يستخدم حين يكون البلد مُهدّدا. فلا أحد مثلا يكتب رسالة لشقيقه يبدأها بـ “أخي الحبيب” وهو ينام بجانبه في نفس الغرفة؛ لكنه يفعل ذلك وباستمرار حين يكون الأخ مسافرا.
الوطن – كمفهوم منسوج برومانسية عالية – هو ضروري للغاية للشعوب المشتتة، أو المهدّدة بالشتات، أو للدول الواقعة في مرمى أطماع جغرافية واستعمارية، لكنه – أقصد الوطن - يصيرُ الدولةَ والعِقدَ الاجتماعي ويتنازل عن طوباويته حين يكون البلد مستقراً.
هل سمع أحدنا مرة عن أغنية وطنية في هولندا أو بريطانيا !
أو رأى مرة مظاهرة لسويديين يهتفون “بالروح بالدم نفديك يا سويد”.
هناك تجري تربية الأجيال على أن الدولة هي التي تفتدي المواطن، وهي المُسخّرة لخدمته.
فكرة الوطن من المسلَّمات التي ينبغي علينا اعادة تعريفها على نحو أنضج، وأقل رومانسية. فهي قائمة بشكل أساسي على صراع المُلكيات، وحمايتها، وهي من مَهامّ الدولة؛ المنوط بها حماية حدودها وسيادتها، لكنه في الشرق جرى تسويق المهمة على أساس أنها من مهام الشعب وواجباته !
كما تم خلط الأمر بالدين، من باب الجهاد؛ لأنَّ الدين حصانة مثالية لإنجاح أية فكرة.
وهكذا اختفت تدريجيا في الشرق فكرة الدولة المسؤولة، دولة المؤسسات التي تقوم على خدمة المواطن، وتم ترويج فكرة الوطن الذي يقوم المواطن على خدمته : يقاتل من أجله، ويموت من أجله، ويكتب فيه الشعر، ويعلق صورته في عنقه، ويضع ترابه الثمين في زجاجة، وتدريجيا وبهدوء لا تعرف كيف انقلبت المعادلة؛ فصار المواطن مسؤولاً عن توفير العيش الكريم للوطن !
وصار الناس يخرجون للشارع يهتفون بصوت مبحوح : نموت . نموت. ويحيا الوطن !
وأنا اتساءل باستمرار حين أسمع هذا الهتاف: حين نموت كلنا بهذا الإصرار فمن هو الذي سيبقى. أعني هذا الذي سيبقى حيّا واسمه الوطن . ما شكله ؟!
ما هو الوطن: مبنى وزارة الزراعة ؟ بنك الدم ؟ مؤسسة الهواتف؟ مباني الصحف؟ سوق الخضار؟ جسر العاصمة؟ المتنزه الكبير؟ حديقة الحيوانات؟
ما هو الوطن بالضبط ؟ ولماذا سيعيش هو إن متُّ أنا!
لماذا كان علينا دائماً ان نبرهن لهذا الوطن عن حبنا : مخبز الوطن، بقالة الوطن، صالون الوطن، دجاج الوطن، بار ومقهى الوطن، حزب الوطن، .. وكأننا عبيد هذه البقرة المقدسة، وكأنَّ كل مواطن يولد متهماً ومطعوناً في وطنيته حتى يثبت العكس: أن يموت والده في معركة، او يكتب قصيدة طويلة في مديح الوطن، او أن يُوفَّق في شراء بَقّالة ويسميها : “سوبرماركت الوطن” !