إنسانية واحدة!
تحت شعار "إنسانية واحدة"، احتفل العالم أمس الجمعة بـ"اليوم العالمي للعمل الإنساني"، في مفارقة مؤلمة في تاريخ العمل الإنساني العالمي. إذ تشير الأرقام إلى وجود نحو 130 مليون إنسان يحتاجون إلى مساعدات عاجلة، تقدر قيمتها بنحو 20 مليار دولار سنويا، لكي يبقوا على قيد الحياة، ومعظمهم لا يجدون ذلك الدعم. وهذان الرقمان المفجعان هما الأعلى في تاريخ البشرية، وربما لا يُذكران إلا باللحظات التاريخية الحالكة في نهايات الحرب العالمية الثانية.
الفاجعة الأكبر تبدو حين نعلم أن معظم هؤلاء البشر، من ضحايا الحروب أو الكوارث والفقر والحرمان، هم من المجتمعات العربية والإسلامية التي تعد اليوم أكثر البيئات في العالم اشتمالا على الكوارث والحروب والاقتتال والكراهية. بل إن اليوم العالمي للعمل الإنساني ولد هنا، في هذا الثقب الأسود؛ إذ قررت الأمم المتحدة اعتماد ذكرى التفجير الذي استهدف في العام 2003 المقر الرئيسي للأمم المتحدة في بغداد، يوما عالميا للعمل الإنساني. وهو التفجير الذي تسبّب بمقتل 22 شخصاً، من ضمنهم الممثل الخاص للأمم المتحدة في العراق سيرجيو فييرا دي ميلو، إضافة إلى موظّفين محليّين ودوليّين في الأمم المتحدة وزوار آخرين. وجاء اعتماد هذا اليوم للتعبير عن امتنان العالم وتقديره لأولئك العاملين في مجال الإغاثة الانسانية الذين تحولوا بدورهم إلى ضحايا في أحيان كثيرة، إذ زاد عدد ضحايا فرق العون الإنساني على أربعة آلاف إنسان منذ العام 2003.
ومن واجب العالم أن يمتنّ كثيرا لهؤلاء النبلاء من النساء والرجال الذين يكرسون حياتهم أو بعضا منها للعون الإنساني، في أكثر الأماكن خطورة. وهم دوما مشاريع ضحايا، يدفعون ثمن القرارات الخاطئة، وفتك السياسة والفساد والتنافس السياسي البشع.
كان من المفترض أن الإنسانية تابت عن صناعة الموت الجماعي البشع، بعد كل ما ذاقته في الحرب الكونية الأخيرة. لكن أرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تشير بوضوح إلى وجود نحو 65 مليون لاجئ في العالم، نصفهم من سورية وأفغانستان والصومال، إضافة إلى عشرات الملايين من المهاجرين في ظروف قاسية، وعشرات ملايين آخرين يلامسون الموت يوميا بسب الجوع والفقر والحرمان. يحدث ذلك وسط فيض هائل من مدائح حقوق الإنسان والحق في تقرير المصير، لكن يعود التحالف بين السياسة والفساد لصناعة الموت والذل للبشرية.
المفارقة الأكثر حرجا بالنسبة للمجتمعات العربية والإسلامية، وهي الأكثر تصديرا للضحايا واللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، أنها أيضا الأكثر فقرا في العون الإنساني، فيما هي أكثر المجتمعات استقبالا للمتطوعين وفرق العون الانساني. وعلى تراب هذه البلدان سالت الدماء الأكثر من هؤلاء المتطوعين ومن فرق العون الإنساني القادمين من مختلف الثقافات والأديان. وتشير أحدث الدراسات إلى أن الشعوب العربية والاسلامية المعاصرة تعد في أدنى سلم شعوب العالم في التطوع، وهي اليوم من بين أفقر شعوب العالم في رأس المال الاجتماعي، أي في الجهد والمال الذي يقدم لعون الآخرين، رغم حجم ما نعزّي به أنفسنا كل يوم من مدائح وكلام مرسل عن منظومات القيم والغنى الاجتماعي الذي لم يعد موجودا إلا في السرد التراثي أو الخيالي.