عصي ليبرمان وأوهام الصهيونية
وقف وزير الحرب الإسرائيلي الشرس أفيغدور ليبرمان، في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي، مُعربدا؛ بعرضه سلسلة من الإجراءات العقابية الجماعية ضد كل عائلة وحمولة (عشيرة) وبلدة فلسطينية، ينفذ أحد أبنائها عملية مقاومة، وذلك في محاولة بائسة جديدة للجم، وحتى القضاء على مقاومة شعب يسعى إلى حريته وكيانه المستقل. إلا أن تجارب السنين الماضية، وسلسلة الإجراءات التي اتخذها الاحتلال، أكدت أن كل هذا لا ينفع. لكن الصهيونية ووليدتها إسرائيل، تصران على إغراق جمهورهما بأوهام لن تصمد طويلا.
فالعقوبات الجماعية التي أعلنها ليبرمان، في صلبها عقوبات اقتصادية وتقييد حركة؛ إذ سيتم سحب جميع تصاريح العمل في مناطق 1948، إضافة إلى محاصرة البلدة بالحواجز العسكرية، لتضييق الخناق على الأهالي ولفترة غير محددة. وفي الوقت ذاته، عرض ليبرمان بعض المشاريع التافهة لإقامتها في الضفة، إذ حتى الصحافة الإسرائيلية اعترفت بأنها لا تساوي شيئا، لتغيير الوضع المأساوي القائم في الضفة.
بعد كل هذا، أعلن ليبرمان أنه سيبحث، وبالأصح سيختلق، ما سماها "قيادة بديلة" للرئيس محمود عباس، ليحاورها، ويُجري معها محادثات، حول ترتيب أمور الفلسطينيين في زنزانتي الضفة وقطاع غزة. وهذه نقطة نعرف نتيجتها مسبقا، كما تعرفها إسرائيل ذاتها من تجاربها السابقة، إذ إن ليبرمان لن يجد في الشعب الفلسطيني من يحاوره، كبديل للقيادة الفلسطينية؛ ولكن بفرضية إن وجد، فإن هؤلاء سيمثلون أنفسهم فقط. ولكن علينا التمسك منذ الآن بالاستنتاج المسبق، بأن الاحتلال لن يجد من يتمناهم ليحاوروه باسم الشعب الفلسطيني. لأن الخوف، بناء على تجارب سابقة، هو أن يتحول تصريح ليبرمان هذا، إلى نقطة لتأجيج الخلافات الداخلية في الساحة الفلسطينية، من خلال بورصة أسماء، تفترضها هذه الجهة أو تلك، بأنها على استعداد لمحاورة ليبرمان وحكومته، ما سيساهم في شحن الأجواء والتوتر، وهذا بالضبط ما يريده الاحتلال.
على الرغم من مشهد العربدة الذي عرضه ليبرمان، وشراسة العقوبات الاقتصادية، خاصة ما يتعلق بحرية الحركة، إلا أن هذا يعكس أزمة إسرائيل واحتلالها. وهذا ليس كلاما عاطفيا، بل إن الحقائق على أرض الواقع تثبت هذا. إذ إن كل الاجراءات والجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، لم تلغِ وجوده، ولم تطفئْ نار ثورته، حتى وإن كان اللهيب في هذه المرحلة منخفضا نوعا ما.
فمنذ اليوم الأول للاحتلال، اتبعت إسرائيل أوامر حظر التجوال، والحصار على البلدات أو المناطق، وتقييد حركة الناس بالتصاريح، ونحن نستعرض هنا العقوبات الجماعية، ناهيك عن القمع والأسر والقتل، ولكن هذا لم ينفع. ثم جاء جدار الاحتلال الذي يخنق الضفة من جميع الجهات، وبأشكال متعددة، وكل هذا لم ينفع أيضا؛ فالمقاومة عرفت دائما كيف تتأقلم، لتستمر وبأشكال متعددة. ثم جرى منع عشرات آلاف العمال الفلسطينيين من الخروج الى العمل على مدى سنوات عديدة في سنوات الألفين، وساءت الأوضاع الاقتصادية، وهذا أيضا لم ينفع. وتتبع إسرائيل دائما سياسة تدمير بيوت المقاومين، وتنفذ هذه الجرائم بكثرة، وهذا أيضا لم ينفع ولم يردع.
لكن هذا لا ينمّ عن عربدة فقط، بل أكثر من هذا، عن رفض الصهيونية الاعتراف بوجود شعب، وبحقه في الدولة والحرية. وتعتقد أن إسكات الفلسطينيين من الممكن أن يتم من خلال تحسّن طفيف في ظروفهم الاقتصادية، ليبقى الأنف قليلا فوق الماء لغرض التنفس، لا أكثر، من دون التخلي عن هدف تجويع الشعب الفلسطيني، وجعله يلهث وراء قوت يومه فحسب.
خطاب ليبرمان ليس موجها للشعب الفلسطيني فقط. ففي الوقت الذي يهدد فيه ليبرمان الفلسطينيين، فإنه ينثر الأوهام بين الجمهور الإسرائيلي، مدعيا أن هذه الإجراءات هي تطبيق لبرنامجه السياسي ورؤيته، وأنها قادرة على القضاء على المقاومة وإخضاع الشعب الفلسطيني. وقد ينجح ليبرمان في طمأنة الشارع الإسرائيلي بنجاعة إجراءاته، ولكن هذا لوقت محدود، إلى حين نشوب هبّة فلسطينية جديدة، تنسف أوهام الصهيونية من جديد، وتقترب بالشعب الفلسطيني من الحرية.