دور الجغرافيا في صناعة القوى المؤثرة
هوا الأردن - م. محمد فندي
لا شك في أن العوامل الجغرافية والبيئية والأيديولوجية تلعب دورا رئيسيا في تشكيل قوى عظمى تتحكم في مصير هذا العالم اللذي نعيشه لتحقيق مصالح ذاتية تخص هذه القوى، وبالتالي نشهد خلق كيانات وتدمير أخرى بما يتماشى وصالحهما. هذا الأمر أوجد نزاعات تأخذ أحيانا طابع الابادة الجماعية والاقصاء لجماعات وكيانات بل ودول بعينها كما حصل مع مملكة دوبروفنيك التي تقلصت مساحتها حتى انحسرت على مساحة المدينة نفسها ليقوم نابليون باحتلال المدينة وانهاء وجود هذه الدولة نهائيا. تكرر المشهد على مدى القرون السابقة مع النمسا التي فقدت الكثير من مساحتها الجغرافية لتنحسر على مساحتها الجغرافية الحالية. وتكرر ايضا مع بولندا التي فقدت مساحات واسعة من أراضيها لصالح الروس والألمان وقوميات أخرى. كذلك الأمر حصل مع الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على نصف اوروبا وكامل حوض المتوسط.
العامل الجغرافي لليابان وانعزالها بشواطئها التاريخية الحالية كمجموعة من الجزر البحرية في غياب اي احتكاك حدودي بتواصل جغرافي مع اية قوميات أخرى، ساهم في ايجاد حالة من الاستقرار السياسي الداخلي مما مكن هذا الشعب من التطور والتقدم على كافة الأصعدة بالمقارنة مع غيره من الشعوب التي لم توفر لها ظروفها الجغرافية ذلك. هذا الأمر ومع توافر ايديولوجية تأخذ أحيانا طابعا عقائديا مقدسا والى حد ما اسطوريا جعل من اليابانيين قوة عظمى عسكرية وسياسية حتى عام 1945 واقتصادية تقنية في الوقت الراهن على الرغم من هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.
نفس المشهد الياباني حصل مع بريطانيا حيث ساعد وضعها كمجموعة من الجزر المنعزلة جغرافيا في المحيط الاطلسي في ايجاد حالة جغرافية تحصنها من اية احتكاك على حدودها مع اية قوة طامحة باستثناء الاحتكاك القومي مع ايرلندا، الأمر اللذي مكن البريطانيين من ترتيب اوضاعهم الداخلية على خلفية قدسية ملكية بروتستانتية لينطلقوا في الاتجاهات كافة كونو معها امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. شعب لم يتجاوز تعداده البضعة ملايين فرض سيطرته على مساحات جغرافية هائلة من هذا العالم وساهم في توفير قدر كبير من التقدم العلمي والتقني والاقتصادي في ظل نظام حكم يستند الى مشروعية الكنيسة البروتستانتية في الحكم السياسي الملكي تماما كما هو الحال مع نظام الحكم الامبراطوري في اليابان.
العامل البيئي المرتبط بالظروف المناخية السائدة في اقصى الشمال من نصف الكرة الأرضية الشمالي ساعد السلاف الروس في توفير قدر كبير من العزلة الجغرافية شبيه بالحالتين البريطانية واليابانية موفرا لهم حالة من الاستقرار القومي ولا اقول السياسي ومحصنا اياهم ايضا من اية سيطرة عدوانية خارجية مما مكنهم من افشال كل الغزوات التاريخية عليهم، لا بل ومكنهم ايضا من توسيع نطاق سيطرتهم الجغرافية على حساب الغير كما حصل مع جميع القوميات والدول المتواجدة على اطراف تواجدهم الجغرافي وفقدانها لمساحات جغرافية هائلة لصالح الروس. هذا الواقع الجغرافي والمناخي حصن بها القومية الروسية مما وفر معه أيضا التربة الخصبة لتقدم فكري علمي وتقني كبير.
ساعدت الاستكشافات الجغرافية كل من البرتغال واسبانيا في أعقاب خروج العرب من الأندلس في عام 1492 وتنظيم اول رحلة بحرية غربا انطلاقا من اسبانيا بقيادة كولومبوس في سعيه لاكتشاف طريق جديد لجزر الهند الشرقية يتجنب به بلاد المسلمين على قاعدة أن الأرض كروية يستطيع على ضوئها الوصول الى الشرق بالاتجاه غربا، في تكوين الامبراطوريتين الاسبانية والبرتغالية. الامبراطورية البرتغالية بقيت قوية حتى عام 1755 عندما ضرب عاصمتها لشبونة زلزالا مدمرا كان مركزه على مسافة قرابة 200 كيلومتر جنوب غرب لشبونة في المحيط الأطلسي أحدث معه أمواج تسونامي أدت الى دمار مدينة لشبونة بالكامل وقتل معظم سكانها. النتائج التي خلفها هذا الزلزال دفعت البرتغاليين الى نقل عاصمتهم آنذاك الى ساوباولو في البرازيل التي كانت في حينه تابعة للامبراطورية البرتغالية وتسبب لاحقا في انهيار هذه الامبراطورية على خلفية الضعف اللذي اصابها نتيجة هذا الزلزال وضياع وتشتت المكونات البرتغالية في العالم ومن ضمنها الأقلية البرتغالية في عمان والامارات العربية المتحدة. بناء على ذلك يكون العامل البيئي مؤثرا قويا في بناء وانهيار امبراطوريات الى جانب العامل الجغرافي.