في غياب اليقين
الكثير مما يقوله الساسة في البيانات والمؤتمرات والمحاضرات كلام مؤثر ومدروس وينسجم مع ما يود سماعه الناس الذين يصفقون له، رغم أن غالبيتهم قد لا يصدقونه.
الخطابة أصبحت فنا من الفنون التي على السياسي أن يتقنها لكي يستطيع التواصل مع جمهوره ويؤثر به. قلة من الساسة لا يجيدون فن الخطابة، لكنهم جميعا يعرفون ما يريده الناس ويعملون على تحويل رغباتهم إلى جمل وفقرات خطابية رنانة يلقونها عليهم في المهرجانات والاجتماعات والمؤتمرات والمناسبات الوطنية.
في معظم الحالات، ينبهر الجمهور بقدرة الساسة في التعرف على همومهم وتلخيصها واختزالها في كبسولات كلامية دقيقة ومعبرة. المشكلة التي تواجه مجتمعات اليوم ليست في أقوال الساسة وخطبهم ووعودهم، بل في مدى إيمان الناس بصدق هذه الوعود وجدية الالتزام بتنفيذها.
الفرق أو التباين بين الأقوال والأفعال أو بين الصورة الوردية التي ترسمها الخطابة لما سيقوم به الساسة وما يقومون به فعلا فرق صادم. منذ سنوات والحديث مستمر عن معالجة البطالة وتوسيع الاستثمار والقضاء على الفقر وتحسين مستوى التعليم وإحراز تقدم في مستوى ونوعية المشاركة السياسية ومحاربة الفساد وتحقيق أعلى درجات النزاهة والشفافية، والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص، وغيرها من الأهداف. اليوم ما تزال البطالة عند أعلى مستوياتها والاستثمار يراوح مكانه والحكومة الالكترونية والاقتصاد المعرفي يتقدمان خطوة ويتراجعان خطوات، والإصلاح السياسي محشو بالعناوين غير المكتملة.
وسط هذا التباين الشاسع بين القول والفعل، تتخلخل القيم، ويفقد البعض الإحساس باليقين، أو يعرض عن تصديق ما يقال، ويسيطر على الناس والعقل الجمعي حالة من اللامبالاة والتبلد والميل للتشكيك، ونزعة للانعزال والاغتراب، وتدن لمستوى التقدير والاحترام للموقع العام وشاغليه، وضعف لروح المواطنة والانتماء، وانخفاض لمستوى تقدير الذات، والميل لتصديق الاشاعات والأفكار والروايات التي تتحدث عن المؤامرة والفساد، وغيرها من التأويلات.
في مثل هذه الأوضاع، يصبح المجتمع في مواجهة خطر انهيار القيم، وفوضى المعايير، وضعف سيادة القانون، وتفشي ممارسات وأنماط سلوكية جرمية تتوافق بعض الجماعات على قبولها وممارستها، مثل الرشوة والابتزاز وتجارة المخدرات والاعتداء على المال العام والفساد واستغلال الوظيفة، وخصخصة الوظائف العامة لحساب شاغليها، وانجراف مؤسسات العدالة التدريجي الى هذه المفاسد، وغيرها من الممارسات التي تنذر بانهيار المجتمع ونظمه ومؤسساته.
مجتمعنا اليوم يعاني من فوضى القيم، وضعف اليقين، حيث تجد الناس يتحدثون كثيرا عن الحقيقة والصدق والأمانة، ويقسمون أغلظ الايمان بأن ما يقولونه أو يقومون به هو عين الصواب، في حين أن الكثير من الممارسات لا تخلو من الغش والاحتيال والخداع والتضليل.
في المعاملات اليومية، يضطر الفرد للعب دور المحقق عند قيامه بأي نشاط، خوفا من أن يقع ضحية للغش والتزوير والاستغلال والتلاعب.
من الصعب اليوم ان تشتري سلعة او تذهب بسيارتك الى ورشة تصليح، دون ان تقوم بتحقيقات أولية حول السلع وسمعة الورشة وكفاءة العاملين وأمانتهم ومعقولية التسعيرة، وغيرها من الأسئلة التي قد تقودك من حالة التشكيك إلى حالة اليقين بأنك انجزت المهمة بتكلفة معقولة.
الأوضاع التي نعاني منها تعود لحالة من الترهل في القيم والمؤسسات ونظم العمل والمحسوبية والشللية وغياب القدوة والمحاسبة. في الأصل ينبغي أن تكون النقابات هي المرجعية التي تحدد كفاءة ومستوى أداء من يمارسون المهن وأن لا يتولى الأعمال إلا من هو مدرب وقادر، وأن يجري تنظيم الممارسة ونشر البيانات حولها. لكن ذلك لا يحصل لانشغال هذه المؤسسات بقضايا لا علاقة لها بسوية المهنة.
مساءلة الشك وضعف اليقين تضعف ثقة الفرد بالدولة، وتقلل من فعالية التعاضد، وتدفع الفرد للقيام بأدوار إضافية لحماية نفسه ومصالحه من الغش والاحتيال والاستغلال والتلاعب.