مدن بلا قلب
“.. كل المدن وهبها الرب للحياة ومنحها أسرارها”
العالم اليوم تلهمه الحريات والازدهار والعقلانية الاجتماعية والأخلاقية. ولم تعد الاحتفالات والقضايا الرمزية تشغل الناس أو توحدهم. وفي ذلك فإننا يجب أن ننظر في مدننا بما هي حياتنا كيف نعيشها، وتمثل الاحتجاجات والمظاهرات التي تجري في الدوار الرابع وتلك التي جرت من قبل في ميدان الداخلية، أو ساحة النخيل أو الفضاء الممتد أمام المسجد الحسيني مناسبة لنفكر في الأزمة السياسية والاجتماعية من منظور أو مدخل التنظيم الاجتماعي الديمقراطي للمدن والبلدات، أو لنقل كيف نعيش حياتنا؟
مشكلة عمان وربما جميع المدن والبلدات الأردنية أنها تخلو من الساحة الرئيسية؛ ما يسمى أجورا أو زارا او جورا، والعبارة الصحيحة أننا دمرنا قلب المدينة، فقد كانت موجودة بالفعل ثم ألغيت في التخطيط الحديث والنمو العشوائي ومضاعفة عدد ساكني عمان والمدن.. وما تزال بقايا هذه الساحات والمرافق قائمة في الجورة والمدرج الروماني والساحات والامتدادات المحيطة والمجاورة.
لو بقيت هذه الساحات والمرافق قائمة وحيوية فإن التظاهرات والاحتفالات الشعبية تأخذ طابعا أكثر سهولة ومتعة وأمانا. وتكون إدارة التجمعات وتنظيمها اكثر فائدة وأهمية بالنسبة للسلطة والمجتمعات. فهي ساحة مشتركة يتواصل التجمع فيها على نحو متواصل وتراكمي على مدى سنوات وعقود وقرون؛ ما يجعلها مزودة بالخدمات والتقاليد والثقافة الراسخة في التجمع والتأييد والمعارضة.. والفضاء العام.
في الواقع التنظيمي لعمان والمدن فإنها تضيق بأهلها وزوارها ما يجعلها غير قادرة على استيعاب وتنظيم الناس والأحداث والجدل العام. وتتحول عمان والمدن تلقائيا من غير ضرائب جائرة وتسعير غير عادل وغير منطقي للمحروقات وامتيازات واحتكارات تمنح الموارد والفرص لأقلية مغلقة ومتعجرفة وغير كفؤة إلى سجن؛ مكان مأزوم بذاته يضيق بأهله وناسه وإدارته وأسواقه.
لنتخيل أن المنطقة الممتدة من مرج الحمام إلى وادي عبدون ثم راس العين والجورا وما صار يسمى سقف السيل فالمدرج الروماني ثم الساحة الهاشمية.. ثم امتدادات ماركا والرصيفة والزرقاء نحو السيل إلى السخنة وجرش وصولا إلى دير علا؛ لنتخيل أنها ساحة مفتوحة يخترقها السيل، وتحيط بها على أطرافها مرافق عامة ومحلات تجارية ومقاه ومطاعم، وبالطبع يجب أن تخلو من كل هذه المباني التي زرعت، فيها مجرد ساحة ممتدة حوالي سبعين كيلو مترا، يقصدها الأهالي والقادة السياسيون والاقتصاديون والاجتماعيون للتجمع والترفيه والتظاهر والحوار والجدل والمسرح والموسيقى والشعر والبيع والشراء والجدل، .. سوف يكون في مقدور ستة ملايين مواطن ومقيم يحيطون بهذا الفضاء أن ينظموا حياتهم ويشاركوا ويؤثروا في مصالحهم وأهدافهم بلا حاجة إلى تدخل الدرك وقوات البادية، تكفيهم مراكز ودوريات الأمن العامة برمزيتها وشاراتها والاستعداد الناعم للتدخل والتنظيم، وسوف يصل الناس إلى تفاهمات وتسويات وتشكيلات يديرون بها مواردهم ومصالحهم وعلاقاتهم.
ليس في مصلحة السلطة أن تخلو المدن من الساحات، وليس في مقدورها وعلى مدى التاريخ والجغرافيا أن تنظم الناس وتسيرهم اعتمادا على قوتها الأمنية، فالمجتمعات تتحرك في تفاهمات (عقد اجتماعي) ملائمة ومتفق عليها، وبغير ذلك لا القوة الخشنة ولا المؤتمرات الصحفية والتلفزيونية ولا الفصاحة والموعظة والإرشاد وحشود الكتاب والمثقفين ورجال الدين تفيد شيئا.
يبدو المشهد الاجتماعي والسياسي اليوم مشابها للمدن نفسها وهي بلا قلب، فالمواطنون لديهم فائض من الموبايلات وبيوت الصلاة وصحف وإذاعات ومواقع انترنت كثيرة ومخزون كبير من مشروبات الكولا ولحوم ومواشي من استراليا ورومانيا ونيوزيلندا والسودان وفيتنام.. وأسواق الذهب تغص بالذهب وبنوك مزدهرة! لكن وكما قال زعيم قبيلة نحن في خير ولا ينقصنا سوى الطعام والخام (قماش خشن).. هكذا فالمواطنون لا ينقصهم سوى الماء والطاقة ومدارس وعيادات ومستشفيات ومراكز رعاية اجتماعية وشوارع وأرصفة ومواصلات عامة وحدائق عامة ومكتبات واندية وحماية المستهلك من شركات البنوك والاتصالات والكهرباء والماء والتأمين ومزودي السلع والخدمات ومضاعفة النمو الاقتصادي وزيادة الناتج المحلي وتطوير الاسواق لتستوعب المواطنين وبلديات حقيقية.