الرشاقة المؤسسية
ثلاثة قضايا تُحدد الرشاقة المؤسسية، سرعة اتخاذ القرار، وسرعة الاستجابة، والقدرة على استشراف المستقبل في الوقت المناسب وبالسرعة الممكنة.
فالرشاقة المؤسسية، لا تتعلق بالحجم، بل هي في الأساس تتعلق بالقدرة على الحركة، وفي السرعة في الحركة، وفي نوعية ما ينتج عن تلك القدرة والسرعة.
وفي الفكر الحكومي، فإن عدد الوزارات والمؤسسات ليس المحدد الوحيد لرشاقة الحكومات، وإن كان لترشيد عدد المؤسسات والوزارات الأثر المهم في القدرة على الحركة وفي الرشاقة نوعاً ما.
والحديث عن الرشاقة المؤسسية بات اليوم أحد أهم محددات قدرة الدول على الظهور عالمياً، خاصة في الحالات التي تستدعي ذلك. ولعل تبعات انتشار الفيروس التاجي المعروف 'كوفيد-19' أو 'كورونا'، ومستوى وحجم وقدرة الحكومات على الاستجابة له،
يُعد من أهم محددات الرشاقة المؤسسية. ويأتي هنا أهمية التحول من حالة المعالجة الآنية، والخروج من غرف العناية المركزة والانعاش، على مستوى الدول والحكومات، وعلى مستوى الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية إلى حدٍ ما، إلى آفاق استشراف المستقبل، والتحول السريع نحو اغتنام الفرص، أو حتى خلق الفرص من رحم الأزمات والجوائح.
كل ذلك ساهم في تحديد مدى رشاقة الحكومات، وصنّاع القرار على المستوى المحلي والعالمي. والتحول نحو الرشاقة المؤسسية يتطلب أعمدة رئيسية يقوم عليها بناء العمل المؤسسي، وسرعة الإنجاز، والتحرر من قيود الحركة البيروقراطية، ومتطلباتها المستندية العقيمة في العديد من الحالات.
بل التحول من العمل الورقي، والمستندات، والاختام، إلى العمل بدون أوراق، وعلى منصات تفاعلية ذكية، وروابط الكترونية، وحتى عقد لقاءات واجتماعات عن بعد، بما في ذلك لجان العمل الفني، جلسات مجالس الإدارة التفاعلية، وجلسات العصف الفكري، وصولا إلى جلسات حكومية، وصنّاع قرار على أعلى المستويات.
الرشاقة المؤسسية تتطلب ضمن اعمدتها تحديد الأولويات، وتحديد المسارات، والعمل ضمن فرق عمل متوازية أحيانا، ومتقاطعة أحياناً أخرى. كما تتطلب ضمن اعمدتها سرعة التحول نحو منصّات ووسائط غير تقليدية من العمل العام، والخاص. ويقوم العماد الرئيس للرشاقة على التخلص من القيود، والرغبة الحقيقية في القفز خارج الصندوق، وليس فقط التفكير خارجه، وهي تتطلب كذلك وبالدرجة الرئيسية التخلي بشكل فعّال، عن تقليدية العمل، وعن القناعات التقليدية التي اعتاد عليها صنّاع القرار، واعتاد عليها بيروقراطي العمل العام في كافة مواقعهم.
وفي الرشاقة المؤسسية ضرورة كبرى إلى القدرة على سرعة تحديد الأولويات، وعلى وضع الأوزان المناسبة لها، وعلى ربط تلك الأولويات باستراتيجية تفاعلية، عمادها الأساس القدرة على تحديد تنافسية الموارد البشرية والطبيعية للدول.
وفي الرشاقة المؤسسية ما يتطلب سرعة تحديد الجهات ذات العلاقة بشفافية تامة بعيدة عن المصالح، وبعيدة عن الاستقطاب، والتشاور مع تلك الجهات، وعدم إقصاء أي منها، والعمل ضمن فرق قادرة على صياغة سياسات عمل آنية Quick Fixes، وفي الوقت نفسه قادرة أيضاً على ضع محاور استراتيجية مستقبلية تتواءم ومتطلبات المراحل القادمة.
وختاماً، الرشاقة المؤسسية لم تعد ترفٌ يمكن التنازل عنه، أو التهاون فيه، فالعالم اليوم، هو عالم المعرفة المتسارعة، ضخمة الحجم، سريعة الانتقال، سهلة الوصول والإتاحة. عالم باتت فيه المعرفة تتضاعف في اقل من 18 شهر، في الوقت الذي كان ذلك سابقاً يتطلب قرن كامل من الزمن، ثم تطور ليصبح تطور المعرفة ومضاعفتها كل ربع قرن، واليوم تتضاعف المعرفة وتتطور وتنتقل عالمياً في اقل من عام ونصف العام، وقد نصل قريباً إلى ممكنات تجعل من مضاعفة معرفة الفرد مسألة زمنية متناهية الصِغَر.
رشاقة العمل العام، ورشاقة صنع القرار، بل ورشاقة اتخاذ القرار المؤسسي في المؤسسات الخاصة قبل العامة، هي محددات أساسية لتطور وتقدم أي اقتصاد، والنجاح في مواجهة أي أزمة مهما كان طبيعتها أو مجالها يعتمد بالضرورة على الرشاقة المؤسسية القائمة على سرعة اتخاذ القرار، وسرعة الاستجابة، ونجاعة استشراف المستقبل وتحديد الأولويات، والعمل ضمن كافة المسارات التي تتطلبها تلك الأزمة بالتوازي والتتابع الرشيق الرشيد والشفاف.