عقال الشايب
من يقرأ العنوان حتماً سيعتقد أن له دلالة سياسية أو اجتماعية ... لكن لن بخطر بباله أبداً أن «عقال الشايب» عبارة عن حلوى شعبية معروفة في منطقة حوران - درعا والرمثا تحديداً - تشبه الكنافة المبرومة لكنها «أسمك» قليلاً وأعرض والحشوة مختلفة تماماً حيث تتكون من خليط بعض مكوناته –وليس كلها- السّميد المشبّع بالقطر والهيل المطحون والفستق الحلبي..
منذ أكثر من سبعين سنة ونحن نستورد «عقال الشايب» من درعا بكميات مهولة ، عندما كان التهريب على الدواب انتقالاً الى «البسكليتات» وانتهاء بسيارات الأجرة الحديثة، فمجرّد أن ترى «البحّار» غارقا في «طبّون» السيارة الخلفي ولا يظهر من جسده سوى « الزنّار وتحت»، ويداه تنبشان منطقة «عجل السبير» وما دونها فاعرف أن في الأمر «عقال الشايب» ..
بالمناسبة وجه الشبه بين «عقال الشايب» و»الطوابع الرسمية» ..انك لن تجدها في كل مكان ، فهناك أماكن بيع محددة تختص ببيع هذا الصنف من الحلوى... ثم أن «الذراعنة « و»الرماثنة»...لا يهدرون هيبة «العقال» تحت أي ظرف كان، فلا يعرضونه كيفما اتفق ...على العكس لا بد ان تتوفر بالمحل المعتمد للبيع بعض الصفات مثل العراقة، والشهرة ، والقوة التجارية...
مجرّد ان تهتز غصون أيلول، تبدأ صناديق «عقال الشايب» تهلّ من تحت ضمم النعنع والبقدونس وقطرميزات المقدوس المهرب من درعا والشام لتحتل مكانها قرب دفة الميزان ..فهذه الحلوى توأم المطر ، لا تحضر الا في فصل الشتاء ثم تبدأ بالتلاشي والاختفاء مجرّد أن يبدأ الربيع بتحريك أصابعه الخضراء على الأرض...
«عقال الشايب» القديم...لم يكن يحظى بعناية في التغليف ، فلا «الباكيت» ملوّن ولا يوجد أية كتابة دعائية تدل على شهرة المعمل او حتى ختم تاريخ الإنتاج، فلون الصندوق الكرتوني رمادي فاتح مائل الى الأبيض السادة وعليه غطاء سميك من نفس اللون..لكن كان له طعم مميز جداً...فقطع «العقال» المرصوفة بالكرتونة تشبه «سحبات» الذهب..تتلألأ بالقطر الناصع ورائحة الهيل الفواحة...
الغريب في أمرنا اننا بقينا أكثر من سبعين سنة نستورد «عقال الشايب» من درعا التي تبعد عنا 20كم دون انقطاع. مع انطلاقة الثورة السورية..كانت تغيب هذه الحلوى على فترات، وعندما اشتدّت الأحداث العام الماضي انقطعت تماماً من السوق ...طبعاً أكثر ما كان يحيّرني كيف لم يفكّر أي من المستثمرين أن يفتح معملاً «للعقال الشايب» ما دمنا نستورده بهذا النهم...الحجج الدارجة كانت :( إننا لا نعرف سرّ المهنة)....طيب خذوا «شقفة عقال» الى المختبر الجنائي لنحلل ونفك «شيفرة دافنشي» الجديدة ..طبعاً لا أحد تشجّع أو فكر حتى أن يفتح معملاً بسيطاً لهذه الغاية ليكتسح السوق...
المفارقة أن أصحاب معامل «عقال الشايب» في سوريا فتحوا العام الماضي معامل لهم في الرمثا وحوران..واستأنفوا استثمارهم بعلب ملونة وأسماء دعائية وتواريخ انتاج وانتهاء، وانتشر في كل مكان حتى في «أهمل الدكاكين».. لكن للأمانة لم «استطعم» به كما كنت...ربما لأن «لذعة» التهريب التي كانت «تنعقد» على آخر اللسان اختفت او ربما زيادة المنكّهات الصناعية ضيعت المذاق..
الخلاصه:
اولاً: «عقال الشايب» القديم..صحيح انه لم يكن يحظى بتغليف جيد أو كلمات دعائية ..لكن على الأقل كان له «طعم» يميزه!.
ثانياً: في الاقتصاد : نملك الشجاعة ان نهرّب أي سلعة لمدة سبعين سنة..لكن ليس لدينا الشجاعة لنجرب انتاجها ولو مرة واحدة على سبيل إثبات الوجود..
ahmedalzoubi@hotmail.com